حنا مينه: الرواية والمساءلة
تحدثت، في مقال سابق، عن أداة التوصيل، بين الروائي والقارئ، وهذه الأداة مهمة أهمية استثنائية، لأن غاية الفن، والأدب فن من الفنون، أن يحمل المتعة والمعرفة إلى المتذوق، ولنلاحظ، هنا، انه في المتعة، وهي التي تأتي مقدماً، يكمن التواصل بين المؤدي والمتلقي، فدون هذه المتعة، تبقى الرواية جافة، اقرب إلى الدراسة المملة، وغالباً ما يتخلى المطالع عنها، أو انه، كيلا ينام وهو يطالع، عليه أن يستعين بدبوس، كي يخز جسمه فيستيقظ لمتابعة مجرى أحداث الرواية.
إن الشكوى من فقدان القارئ، تبقى صحيحة، فنسبة الأمية كبيرة في الوطن العربي، ونسبة الذين لم يتعودوا المطالعة كبيرة أيضا لأسباب كثيرة، منها الركض وراء الكسب المادي في المجتمع الاستهلاكي، ومنها عدم تربية أجيال من القراء، وانصراف الأثرياء، أو من هم في حكمهم، عن اقتناء الكتاب، كحقيقة لا تقبل الجدل، وقد تجد في بيت هذا الثري أو ذاك، من التجهيزات الكهربائية، كالثلاجة والغسالة والتلفاز الخ.. عدداً غير قليل، ولاتجد مكتبة أو كتاباً، وهذا ليس تنديداً، إنما هو واقع، يتخذ صفة المقولة الموضوعية، فمن يبقى لشراء الكتاب أو إنشاء المكتبة إذن؟ الفقراء؟ هؤلاء يؤثرون، وهم معذورون، شراء الرغيف على شراء الكتاب، والفئة التي تهتم بالمطالعة، وتسعى إلى شراء الكتاب، هي فئة طلاب الجامعات، والشباب المتنور، الذي لديه وفر، وبعض العمال، وقليل جداً من الفلاحين، وهؤلاء لايملكون ثمن الكتاب، بسبب تدني الدخول، وانخفاض القيمة الشرائية لديهم، وهذا الواقع معروف، وفيه تفصيل أكثر، لامجال له هنا، لذلك تبقى القدرة على التوصيل، هي العامل المهم، الجاذب لفئة المطالعين القليلة، باستثناء النقاد والدارسين، الذين يقرؤون على مضض، وحتى على ملل، لأن النقد الذي يشتغلون عليه، أو الدراسة التي يتوفرون لها، يقتضيان الصبر، وإتمام قراءة العمل الأدبي قليل المتعة، أو فاقدها، وحين لاتكون ثمة متعة في القراءة، لاتكون هناك رؤية، مادام التلازم بين المتعة والرؤية، في الأدب والفن، تلازماً عضوياً، لامندوحة عنه.
نخلص من قضية الذائقة التوصيلية، التي ينبغي الحرص عليها، إلى قضية المساءلة، فإذا راعينا الذائقة التوصيلية، وقدرنا قيمتها في تحريض ذات القارئ تحريضاً كافياً لمتابعة القراءة، يأتي دور إثارة التساؤل في نفس هذا القارئ، لذلك أسعى، في أعماقي الروائية، إلى نوع من التغريب المعروف في المسرح، والذي يضع المشاهد في دائرة المساءلة، حيث يكون للسؤال، وهو جزء مهم من وظيفة الأدب والفن، أهمية بالغة الدلالة- إن عملاً أدبيا لايحمل على التساؤل هو عمل للتسلية فقط، وهذه التسلية متوفرة حتى في لعبة الألغاز وحلها. إنني اكرر، واشدد على المساءلة، التي تمنح الرؤية، وتوسع أفق القارئ، وتجعل أثر القراءة باقياً في الذهن لمدة طويلة. تأسيساً على هذا، يكون للسؤال، وهو جزء مهم من وظيفة الأدب الاجتماعية، مكانه المميز في العمل الأدبي، ينطرح في مجرى الحدث، ويتطلب جوابه في نهايته المفتوحة للتأمل، ذي الامداء القصية.
إلا أن الحرفية وحدها، أو المعلمية وحدها، ولا ازعم أنني بلغتها في كل أعمالي، هي التي في وسعها أن تطرح أسئلة، وقد تكون أسئلة ملتبسة، تحمل على التفكير دون مباشرة في الطرح، كما تحمل، بدورها، الرغبة دون أن يحس المطالع بصدمة من أي نوع، سوى صدمة، انبعاث لماذا؟ وما المقصود؟ وكيف الحل؟ ولكن علينا أن نلاحظ أن المساءلة، هنا، تتخفى بعفوية، كما يتخفى الكاتب في نصه الروائي، أو القصصي، بعفوية أيضاً، وإلا فسد الإبداع، وانقلب الحوار إلى استجواب والسرد إلى تحقيق، مهما يكن ذكياً، فإن المتلقي يستشعره وينفر منه.
هكذا نرى أن الموهبة، وهي ضرورية، تتغذى بالمعرفة، وتنصقل بالممارسة ودورها ان تتثقف، وتزداد ثقافة مع الأيام، وحتى الإلهام، الذي هو استعداد لتلقي الانعكاس في الذات المبدعة، ثم انطلاقه منها وقد غدا انعكاساً فنياً، حتى هذا، يحتاج، من خلال الثقافة، لتقبل الانطباعات، وتفحصها، وترتيبها، واستخلاص المفاهيم منها، ثم ترك تفسيرها إلى دلالة الحدث، لا ان نقوم، نحن الكتاب، بتقديم تفسيرات جاهزة، قد تكون صائبة وقد تكون مخطئة، وفي الحالين تتجانف والمساءلة، بسبب من أنها تئد السؤال منذ تشكله، وتعطل دلالته، مانعة انبعاثه في ذهن القارئ، نتيجة التفسير المنافي للغرض من جعل هذا القارئ يفسر الأشياء بذاته، بعد إعمال الفكر فيه، والتدبر الواجب في أمر فهمه.
يقول تولستوي: «في عملنا، نحن الكتاب، الكثير من الجوانب الصعبة، إنما لدينا المتعة، متعة الفكر، أن تقرأ شيئاً فتفهمه بجانب من جوانب عقلك، وتفكر فيه بجانب آخر ، ثم تتصور قصائد وروايات ونظريات فلسفية كاملة، وتتمثلها في خطوطها الكبرى، فذلك هو المطلوب، تولستوي، وهو المعلم الكبير، صاحب رواية الحرب والسلم، الشهيرة جداً، يرى متعة العمل الإبداعي، تضاهي صعوبة كتابته، وهذه المتعة هي، كما قلت سابقاً، متقدمة على الرؤية المعرفية التي يعطيها، فنحن نقرأ لنفهم بجانب من جوانب عقلنا، ولنستمتع بجانب آخر من جوانب هذا العقل، ثم نتصور كل ما قرأنا، ونتمثله في خطوطه الكبرى، التي تبقى، بعد القراءة، عالقة في الذهن، من خلال المعرفة، وهذا يثبت من خلال شهادة كاتب عملاق، أن المتعة تسبق المعرفة، ودون هذه المتعة، التي هي، في المآل، نتاج أداة التوصيل، لا يبقى من الأثر المقروء، إذا أنجزنا قراءته، ما يعلق في الذهن، ومانتمثله معرفة مكتسبة، ذلك أن الآداب، والفنون جميعاً، موضوعها الإنسان، وهي منذورة لهذا الإنسان في غاية إبداعها، وما الانسان، في المحصلة، إلا المجتمع، والغاية، من آدابنا وفنوننا كلها، هي الاستمتاع بقراءة، أو تذوق، ما يدور حول الإنسان والمجتمع، لنزداد بهما معرفة.
الأدب والفن هما نتاج برسم الاستهلاك، أي أننا، وبغير استثناء، ننتج لمستهلك، لقارئ ومتذوق، فكيف السبيل إلى الوصول إليهما؟ سبيلنا إلى ذلك نتاجنا، فهو ليس وسيلة استهلاك في ذاته، بل طريقة هذا الاستهلاك، فوق ذلك، وكي يتم شراء هذا الإنتاج، وتالياً استهلاكه، يحسن ان ينطوي على إغراء، على جاذبية، على متعة، وبقدر توفر المتعة، يتوفر العنصر المعرفي في مانستهلك من كتاب أو لوحة أو أغنية أو معزوفة موسيقية.
إن أدبا، أوفناً، لاتتوفر فيه المتعة، لاتتوفر فيه المعرفة، والمعرفة، في أقصى أهدافها، هي التي تثير الأسئلة، وتطرحها، وعلى هذا فإن هناك، في الإبداع، ثالوثا متلازماً: المتعة، المعرفة، المساءلة!
حنا مينه
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد