إنسانية الطيب صالح وعالميته
بدا لي الاسم غريباً يوم التقيته في القاهرة. كان يجلس قبالتي في الأوتوبيس الذي ينقلنا من الفندق إلى معرض الكتاب. كدت، ونحن نتحادث عن المرأة والحرية والإبداع، أخاطبه بـ: مصطفى... لعلَّه النيل الذي كان يجري على مقربة منا وكان يتأمله، جعلني أرى فيه مصطفى. كان يحكي ويتأمله.. كأنَّه كان يتذكَّر ما قاله على لسان مصطفى سعيد؛ يتذكَّر ويهمس في سرِّه:
«أجل، بيتنا على ضفاف النيل تماماً. بحيث إنَّني كنت إذا استيقظتُ على فراشي ليلاً، أُخرج يدي من النافذة وأُداعب ماء النيل حتى يغلبني النُّعاس».
أو، لعلِّي أنا التي كنت أتذكَّر هذه العبارة من روايته التي قرأتها مراراً. أتذكَّرها وأنا أراه يتأمِّل النهر الكبير وكأنَّه، شأن الراوي، يطوف فوقه وقد قرّر أن يختار الحياة.
نعم. يوم كتب الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال، عام 1966، كان يختار الحياة.
قاوم التيار، واندفع كوتر قوسٍ مشدود، ليطلق السهم نحو آفاق أخرى.
من صحراء الظمأ انطلق، توسَّل العلم ليهزم الفقر، وليحرِّر العقول من الخرافات. وكي:
«نعطي الشعب مفاتيح المستقبل ليتصرَّف فيه كما يشاء». (ص 153).
كتب الطيب صالح قصة حياة متوجِّهاً بها إلى من «يرون بعين واحدة، ويتكلّمون بلسان واحد، ويرون الأشياء إمّا سوداء، أو بيضاء، إمّا شرقيّة، أو غربيّة» (ص 152).
لقد رأى إلى ثراء العالم وتنوُّعه، دون أن يغفل عن ظلم المستعمرين وناهبي خيرات الشعوب. هو الذي قال على لسان بطله:
«البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز، وسككُ الحديد أُنشئت أصلاً لنقل الجنود. وقد أنشأوا المدارس ليعلِّمونا كيف نقول «نعم» بلغتهم. إنَّهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله..» (ص 98).
هو ابن هذا الوطن، وحين سافر عنه حمله في قلبه، وارتفع به بروحه وقلمه.
سافر لا ليهجره، بل ليضيء الشموع لاسمه، وليراه الآخرون على حقيقته: عريقاً في إنسانيته، حالماً بعدالة هي حقّ له في أرضه وخيراته.
وحين كتب روايته الأولى، وجَّه فيها السهم لمغتصبي خيرات وطنه، وطن أعاقوا نهضته. وتوسَّل الرمز، الرمز الذي يطفح بالعشق وتستفزّه الغريزة، والذي يؤدِّي، فنيّاً، وظيفة الإفادة بأنّ الآخر ليس واحداً متماثلاً بذاته، بل له أكثر من وجه، وأكثر من دلالة.
إنّه الانفتاح باتجاه العلم ومعرفة الحياة والعالم. الانفتاح الذي يشير إلى احتجاج الأدب على عدم كفاية الحياة مثلما هي عليه. والذي يرهن المعرفة بالنَّقد، ويجعلها في خدمة الإنسان أياً كانت هويته، وكان عرقه، وكانت ديانته.
هي إنسانية الطيب صالح الرامية، خلف ما أبدع. إنسانيته المرهفة، القائمة على الإخلاص للذات، والطافحة بالحنين إلى أصولها. الحنين الذي يجيد التمييز، كما يقول ماريو بارغاس يوسا، بين الطارئ والجوهر، والذي يبقى في التماعة الذكريات.
هي إنسانيته التي يعانق فيها الـ أنا الخاص الـ أنا الإنساني العام. حيث الفروقات هي دعائم التلاقي، وحيث الشعور بالهويّة له معنى القبول بالاختلاف، وحيث الاعتزاز بالـ أنا يقضي إلى احترام الآخر.
الطيب صالح...
هل هي مجرد صدفة أن يكون هذا الاسم لهذا الأديب الفذّ. له باعتبار علاقته بوطنه، ونبل نظرته للإنسان، وسمو وعيه بالحقائق التي يطويها الزمن. زمننا العربي، ونادراً ما يحفل بها تاريخنا!
نعم. هو اسمه وأكثر من دلالات هذا الاسم.
إنَّه الروائي الكبير، المبدع الذي ربط بين سمو الأدب وعلوِّ الثقافة، فكان بذلك من أوئل الروائيين الذين أعلوا من شأن الرواية العربيّة وأفسحوا لها مكاناً بين الروايات العالمية.
هو الروائي الذي وظَّف الالتباس لإثراء الدلالة، وهو الذي كسر قوالب الشرد التقليدي حين حرره من الخطيّة، وفتح لفضاء المتخيَّل نوافذ على التنوُّع والاختلاف، وأقام بنية عالمه الروائي على تناقضٍ يتجاوز الضديَّة الثنائية، ويضيء حقائق الواقع المعيش، ويُري غير المرئي فيه.
تربَّع الطيب صالح على عرش العالمية فقرأته شعوب لها أكثر من لغة، أكثر ممّا قرأته شعوب لها لغة واحدة.
ربما لهذا كان شيء من الأسى يسكن عينيه يوم رأيته، وشيء من الزهد يميل به عن الكلام. قال فقط، وكنا في لجنة التحكيم: أنا غير مرشَّح لهذه الجائزة [ جائزة المجلس الأعلى للثقافة، في القاهرة، للرواية العربية. الدورة الأولى.
وبدا لي كبيراً. وكنت أعرفه كذلك في أدبه. وها أنا أجده كبيراً أيضاً في شخصه.
قلَّة ترتقي إلى مثل هذا الكبر فتضع كل الجوائز دون قمة الإبداع التي يتربَّع عليها المبدعون.
الطيب صالح.
اليوم نفتقدك في بلدك الذي أحببت. السودان الذي جعلتنا نحبّه قبل أن نراه.
واليوم إذ نرى بلدك لا يمكننا إلا أن نراك فيه... وقد عدت إلى مَنْ كنت تحنُّ إليهم، وتحلم بهم.. وتكتب لهم في ما أنت تكتب للعالم.
عدت لتستكين إلى دفء الأهل، والعشيرة والوطن، عدت لتحيا أكثر من حياة، عدت وأنت علامة إبداع خالدة.
فهنيئاً لهذا البلد بك، وهنيئاً لنا، نحن الناطقين بلغة الضّاد، بك. وهنيئاً للإنسان بك، لكلِّ إنسانٍ قرأ بلغته، فتعرَّف إلى جمال عوالمك المتخيلة، وعرف حقيقة المعاناة التي عبَّر عنها أبطالك، وعمق النُّبل والثراء الذي هو لوطنك، ولأُناس وطنك.. لهم في نضالهم الطويل لتكون الأرض لهم، وليكون الهواء لهم، وليرتفع صوتهم معلناً، كما أبطالك:
إنَّنا نقرِّر الآن أن نختار الحياة.
([) قُدمت هذه الشهادة في الخرطوم بمناسبة الفعاليات الختامية التي أقامها مجلس أمناء جائزة الطيب صالح للإبدع الكتابي يومي 18 و19 فبراير (شباط) 2011.
يمنى العيد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد