فاتـح المـدرس.. تزاوج الكارثي بالتاريخي والمحلي بالأثري والرائع بالفاني
إنها لأعمال محيرة، شمولية ومختزلة. تنطلق من ذاتها دون أن تكشف عنها، رغم كونها غير محجوبة، رغم قربها المشبوك ببعدها فالوصول إليها غير سهل. ألصقت الوجوه ومرغت بالأرض والحجر، وحفر طائر وحيداً في أفق أخضر، وانقلب المنظر في إطار ترقب صعب، انتظار له شكل وداع بلا نهاية. على يدي فاتح المدرس، تحولت التلقائية النضرة كقوة آتية من انتباه «طبيعي» والتقاط «عادي». لم تمكث في النقل والمحاكاة الصرفة، ولم تكتف بمأوى التجريد ولا الماورائي. هربت من المدارس والتيارات، وأثناء هروبها نجت بها ومنها. الوفرة البدنية والشكلية الصادمة لم تمنعا خفة ورشاقة محلقتين، انقبضتا وتكثفتا إلى نوع من حسية التجريد المنفعل. هكذا عثر الخيال والحلم على تناغم لوني حار، على ظهور وامتلاء زاخمين. ارتدت الثقافة المتجذرة وتفجر الشاعرية الصارمة، ومن خلفهما سرديات قصصية واقعية مريرة لم تخل من سخرية ونبرة تعليمية، ومقاطع شعر باهرة، ملغزة أحياناً وبهما الكثير من فطنــة الســاخر وتهكم اللاهي، ارتدت كلها عبر اللوحة ثوب طفلٍ وحمامة غير بعيدة عن نفثات وحوش أقرب إلى مسوخ بشرية. شاهدنا التشكي يتقطر من نظرة امرأة، والدة قصف الظلمُ وجهــها، فلاحــة كردية بحطة ريفية معهودة على خلفية تلال متاهــية، وصار عناق عاشقين أقرب في شكلــهما إلى هيئات الدمى ذائبين شفــيفين كما ظهــرا في لوحة «الله محبة» مثلاً.
شغف الطفل
لم تنجب الذاكرة وشغف الطفل سوى حنين شبه ممحو. الإفراط في التعلق ولد إفراطاً في الاختزال والحذف. في معظم أعمال فاتح المدرس حرارة تبلغ رقةُ بوحها قسوة الكتمان؛ فالعاطفة كوجه حاملها مكلومة مسطحة ومتماسكة، وهي بغنى عن كل رمزية. هذا التضاد حفل قوي لربط الانفعال بشكل تعبيري غير مسبوق. لم تخل أعمال فاتح المدرس من رغبة تحقيق «هدف» جامع كلي وموحد، من ضمّ للكتل المسطحة، شدها ورصفها على رؤوس بعضها، تنقيتها وتحجميها حد التقطيع والفصل، بل إدمائها واقتلاعها. جاءت فرادة المدرس من ملحمية مشهدية متقشفة، وغنائية تصويرية باذخة. صفاء البصر لم يلغ حدّة اللون، وإلغاء المنظور لم يكتف بالنفي، فخلف حطام المنظور سديمٌ أكثر قوة وقرباً من أي انسجام. لم تبعد صوره عن بساطة الملامح في شيء، فكائناته أقرب إلى زمن البدايات، نتوءات الصخر وفجوات السماء وحنان التراب وغيمية أفق يحضن طائراً كالسهم، كما لو أنها تولد أول مرة، مسحورة عائمة وخائفة. إنها مطرودة وليس لها مكان سوى مقدمة اللوحة، فهي سيدة منفاها طالما حرمها الواقع من أي مكانة وقذفتها الطبيعة في وجه عزلة شرسة. مضى فاتح المدرس، من داخل قبو صغير في حي النجمة بدمشق، مضى وحيداً إلى ما يشبه النبع والجذر، دون أن يغريه ادعاء النقاء بالسهولة ولا وهم الأصول بحقيقتها. تجمعت الكتل والألوان، التي هي مشاعر ومصائر، صوب أحادية تشخيصية انبسطت مبعثرة تفككت على السطح، وتعددية تجريدية مضطربة غارت وتعمقت في لمحية ونسك الإشارة؛ فالتجريد ملعب كلي قاتم، والسطح هشاشة الكلي ومحور دواره على نفسه. رحابة واستواء السطح استقبلا ببراعة رغبة القبض على أشكال أقوى من حبسها داخل انسجام الأبعاد التشريحية، ومحدودية مساحات التناظر الفج. إن التنافرات الظاهرية، والخشونة الساطعة، وتقطيع الجسد بقعاً منفصلة، تحريفها الطافي غير المشوه، وإنهاءها بأطراف حيوانية، رُبطت بعمق حدسي. وضع المدرس إشارات شتى كأنما هي أحافير داخل مساحة واحدة، فالعين لا ترى حاضرها فقط، وهي غريبة عن محيطها، عزلاء ومنفردة، هي أجنبية بالمعنى الذي ينبغي ترجمته عن لغة غريبة. تزامن الرؤية، حدّتها وشموليتها وعتقها واختصاراتها المزمومة يمدها بقدرة مركبة. ثمة حفر وتراكم وتحقيب، دون أن يؤدي الحفر إلى ثقل اشتغال نحتي، ولا التحقيب إلى تعتيم، ولا التراكم إلى تبلد. نجا من عطالة الكليّ الرازحة وفوضى المطلق عبر تفتيته وتبديده وتضويئه وإشعاله، كأنما في تدميره وتذرره شكل من استدعائه وحلم استعادته، فلم يبق سوى إشارات نفاذة وزاهدة. نكاد نعدم أسباباً خارجية لهكذا توجه تصويري فريد، سوى قدرة تعبير ذاتي ارتقت بجموح صوب الكوني. تجريدية المدرس، أو ما يبدو في مظهر التجريد، خادعة، فهي في غيبوبة مدوخة أكثر منها في انسحاب الشكل، هو انسحاب سهل عادة، إلى قفص الظاهر، حيث يبرد كل مرئي خلف بطانة التجريد. اللاتوزان وتغييب الانسجام هنا ابتكرا نظاماً آخر للعين يلبي دخيلة باطنها الشبحي واحتشادها الحلمي، ذاكرة خوفها وأمل خلاصها. طيف الالتباس لم تنقصه حيوية، ولم ينزع عن اللوحة تناغمها الصلب ومتانتها المجسدة. لم ينطلق المدرس من تاريخية محنطة، لكنه طوعَ التاريخي والديني والطبيعي والرمزي كما لو يعيد إحياءه وتحنيطه. جمّعها، وخالطها وخلخل بنيانها. إن التعمق في مواضيع متقاربة وبأشــكال متجــاورة، رفع من خصوصيتها، فما أحرق حضوره عبر التجاور المكثــف دمــر من سلاسة السطح وسلامة استوائه، وغدا الحرق والتدمير بعداً للسطح نفسه.
شخوص
شخوص المدرس مجرد هيئات أو هي أشكال نمطية مدفونة. يمكن للعدمية أن تفضي إلى هكذا نتيجة، فهي رافعة التوحيد وقلب التجريد. العدمية، إذا صح نسب المدرس إليها، لم ترادف الإفناء قدر ما حملت ولعَ خلقٍ تفجّر بالشكل واللون كمحلين مجردين ومعبرين. تجريدية المدرس إغواء أكثر من كونها إخفاء. لطخٌ وتبقيع وخلع، إقلاق للتشخيص المحاكاتي وفرز طارد للتجريد عن عمى تماثل مطبق، فوجوهه مهترئة ومنطوية وملتوية، وقد ألغت خشونتُها نضجَ ملامحها، وحافظ لطفها البري على قربها الخجول. إنها بلا أصل طالما كان الأصل سديم كل وجه ونواة فقدانه، وتعابيره تكاد تخص أي أحد رغم أنها متفردة في انضغاطها ومشحونة بآلامها، فالألم والدهشة، الحيرة والحنان، دونما سند خلقت وجوهها، وصار الوجه، كما لو نجا من المحو بمشقة، ناثر عاطفة مؤثرة أكثر من كونه ميزة شخصية محددة، صار تعبيراً أقرب إلى صلادة الصخر منه إلى ليونة الماء. هنا يمكن للعاطفة أن تعد جذراً للسمو التعبيري وللرغبة الذاتية أن تتحول إلى خلق من لاشيء. غير ان شخوص المدرس أقرب إلى بهيمية الأشياء وكتامتها وانغلاقها، إلى مناظر الدمى وتغبر الصخر، حيث يقترب النداء ويتضوع من أفواه ساكني الأيقونات، كأنما تكونوا من التراب والصخر والعشب وتوهج النار. أشجاره إشارات إلى الأشجار، وحوشه مسلولة من ضراوة الوحــوش. ليس اللون حاوية رمزٍ بقدر ما هو إرهاف وإرعاش ملموس لمعنى الرمز.
وهو بهذا يسقط الرمزي الشائخ في لحم اليد كما لو كانت اليد اضطراب الوعي الذي يعيد للرمز تألق قيمته وصدى انتشاره. اللون قوة وقدرته تتحد وتتلاصق بمدى تعبيريته، وهاتان الحسية والمباشرة الفائرتان، حيث يتعظ البعض من وحشة وأنين بعضه كما لو يعضه، وأثناء العض يبتكره. خلت الوجوه من عيون واضحة، وما نأى جاء في مستوى من الدنو والقرب المضغوطين؛ فالوقت ينحل ذائباً وترابَ المكان كما تغوص أضواء المياه تحت جذور الوقت. إن الإشارة كونها إشارة لا تحتاج إلى مسافة ناظمة بقدر ما تحتاج إلى قوة ومغزى، فقوتها دافع حضورها، وما يدفعها إلى الحضور يحاصرها، فلا غاية هنا سوى ما هو هنا فقط، سوى الحاضر وقد غلفه رجْعُ الماضي والمستقبل إذ غدا تنفّسَ الهنيهة واختناقها، فكل شيء راهن حضوره المنبثق قدر ما هو متوار خلف درع الخوف وضائع في غيبوبة الحلم. لكن محلية المكان، وهي شبحية كابوسية في الغالب، وبعد التاريخي، وعبير الطفل الذي حوله المدرس إلى أيقونة يستحقها، محفورة ومقصوفة ببروق الذاكرة التي أخذت طيفية مظهر الحلم أكثر من توثيقية التسجيل ونسخيته. تجاور شخوصه وقربها من بعضها، قسرها إلى بعد متزامن ومتلاقح في التشكل والإحاطة والدمج. إن هذا المكوث شبه الجامد في المكان اليابس واللحظة المتقيحة حفز من طاقة اللون على إرسال أسخى قوة ممكنة، ما راكم وضاعف البعد في مساحة واحدة. كأنما هي حركة مصبوبة داخل جسد سكون نقي، وانطفاء هشّ يمس ذروة لهب متقدة. ضغطت القبلة في القبلة حد تحولها خط دخان وعانق الفم فم الريح كما لو كان فجوة ذعرٍ أو صرخة توسل لا غير. حضر المسيح الألم الصرف، ألم رجل حالم مغلق العينين، وحيداً كما كان بلا كنيسة ولا كتاب، حضرت المدافن والمآسي والحروب، وبقي تكتل اللون جامعها الشادّ إلى بعضها كما لو أنه يفككها إلى عناصرها الأولى: الطغيان والقسوة، الدمار والألم والرجاء. إننا أمام الأرض وقد غاصت في طبقات عمرها وأمام حضن العين وقد غدا حكاية اللوحة كلها. هيئات المدرس لا تنظر إلينا فقط، إنها تتوسل وتنتحب، تتلعثم وتستــغيث، تحــب تتــورد شهوة ولوعة، تخجل تتردد وتتوحش، إنها تقول ما لم يعد ممكناً تأجيله.
رؤوس الجنرالات فارغة فهي لم تنجب غير قحط الخواء وبؤس الطغيان، حلت محلها غصون نحيلة لزهور أضعف من النسمة، زهور تكاد تكون بلا وزن، فالأشياء على وشك أن تلمس أو تنمحي، تبزغ أو تندثر، والنظرات «رقّت حتى كادت تنقطع». لطخات كالوجوه ودماء كالبقع، صرخات هي ألوان، أطوار حياة بُترت عن أي أمل. داخل هذه الوحشة المدوخة سيسيل ثراء الشكل المضطرب والمتين، لكنه ثراء مخنوق البهاء لأنه بريء سوى عن رائحة التراب وملمس الحجر مستسلمين لتوهج الضوء كشاهد على محنة، كحامل غير محايد له من البهاء بقدر ما لها من الخنق. درس قاس من عجينة ألوان «حرة» منصهرة نظمتــها دفقــات نابضة أشبه بموسيقى تزاوج الكارثي بالتاريخــي والمحلي بالمدفون، والرائع بالفاني، تحــنطه وتحتــفظ بثقل صرخته السوداء، وتحتفي بضحــاياه في آن واحد، حيث يبدو الوجه القناع رثاءً دامــعاً لجــمال مهدور، والبؤس مكان رفض مبطـن ومحتــقن، واللون منارة صمت كالألم.
علي جازو
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد