قراءة في مشروع نصير شمّه الموسيقي
يكتسي مشروع الفنان الموسيقي نصير شمّه أهمية استثنائية، كونه يأتي في ظروف صعبة للغاية تمر بها الموسيقى العربية المعاصرة سواء على مستوى الكتابة أو الممارسة وتجلياتها، التي تظهر على أكثر من صعيد وتحديداً في موضوع الانتماء والهوية، وهو موضوع أخذ الكثير من النقاش والحوارات دون أن يتم التوصل إلى رؤية واضحة تقرأ في مسببات هذه الظروف التي أفضت كما هو معلوم إلى تراجع مخيف في مسار الروافد الإبداعية وفي الانتقال من حال التقليد إلى مرحلة الكتابة الحداثية التي تتأسس على مفهوم توسيع مناخات التعبير والتواصل الروحي والوجداني مع الموروث الموسيقي بما يخدم الكتابة المعاصرة بحيث تنتفي الحاجة إلى استنساخ الروح الغربية في الكتابة الموسيقية حتى ولو كانت كلاسيكية الطابع إلا بما يخدم ويثري هذه الكتابة الحداثية.
ومنذ البداية طرح نصير شمّه رؤيته للكتابة الموسيقية المعاصرة التي لا ترتهن للماضي إلا بحدود القراءة «الجوانية» وتفكيك عناصره ومفرداته الإبداعية بما يفضي إلى فهم أعمق وأوسع لطرق الكتابة والممارسة القديمة والانطلاق من هذه القراءات المتعددة نحو الحاضر الموسيقي الذي لا يعني أيضاً الارتماء في حضن الغربة والتغريب الموسيقي ومن ثم التبعية العمياء التي تقود كما تنبئ عنه بعض التجارب إلى حالة سلبية من الاستنساخ والتقليد الأعمى الذي لم يحرر الموسيقى العربية من تلك القيود التي كبلتها سنين طويلة بسبب غلبة التيار التطريبي أو التيار الاستهلاكي السائد بل زاد من هذه القيود والحواجز العالية في وجه تحررها ونهضتها الموعودة، من هنا تحديداً، بدأ هذا الفنان المبدع وبعد مراحل التأسيس المعرفي والثقافي في الاستفادة من مكونات الهوية الموسيقية العربية وعناصرها الإبداعية كما من العلوم الغربية التي تفهمها وخبرها عميقاً بما أهله لأن يقدم تجارب وحوارات موسيقية بازغة مع الآخر حيث انصبت جهوده في هذا المجال على مزاوجة آلة العود، تلك الآلة الساحرة مع الأوركسترا بما تمتلك من قيم صوتية وتعبيرية وذوقية أيضاً وتوظيف هذه المزاوجة في كتابة موسيقى عربية حداثية تغتني بالحوار والمثاقفة الإيجابية من منطلق الندية وبأن الموسيقى العربية تمتلك أيضاً عناصر ومفردات سامقة تحتاج فقط إلى الموسيقي المبدع الذي يسعى ويتوق إلى المساهمة الوجدانية في سفر الحضارة الموسيقية كما فعل من قبل الرواد المؤسسون حين وظفوا هذه العناصر في كتابة موسيقى إنسانية شاملة لكل الأزمنة.
وهكذا يكتب نصير شمه موسيقاه بكل تؤدة ومتعة روحية مستقاة من إرث تاريخي وإبداعي لهذه الآلة النبيلة التي شهدت ومنذ آلاف السنين وعبر حضارات سامقة قامت على الأرض العربية ثورات حقيقية في العزف والأداء كرستها كآلة قادرة على حمل رسالة الموسيقي العربي وكذلك الباحث والمفكر الموسيقي الذي ساهم أيضاً في خلق واجتراح طرق عزف وأداء مشبعة بالقيم التعبيرية التي تمتلكها هذه الآلة التي تتحول بين يدي هذا الفنان المبدع إلى طاقات من نور وحب تفضي إلى التأمل والصفاء الروحي خاصة في مقطوعاته المستوحاة من عمق المعاناة الإنسانية بما تسعى إلى تحرير الإنسان من عبودية المادة وزبدها العابر والزائل كما نرى في أعماله الآسرة «عود من بغداد، رحيل القمر، قبل أن أصلب، من أمسك بيد الحب، إشراق، من آشور إلى اشبيلية، صلاة بابلية، حوارية بين المتنبي والسياب، ورائعته الفاتنة مقامات زرياب وقائمة تطول من الأعمال للمسرح والسينما والغناء الصوفي إضافة إلى مجهوده النبيل في تأسيس بيت العود العربي وغير ذلك من فعاليات ومسارات إبداعية تؤكد أن حلم نصير شمه الموسيقي قد بدأ بالتحقق والتبلور وأن ثورته الموسيقية على آلة العود ما كان لها أن تتحقق لولا ملامسة هذا الجوهر الإنساني وإقامة جسور تواصل مع إرثه ورسالته الحضارية التي يريد إيصالها للآخر عبر هذه الآلة العظيمة التي قيض لها مجموعة كبيرة من الأسماء المبدعة وخاصة مع مدرسة بغداد للعود ومؤسسها الشريف محي الدين حيدر وجميل ومنير بشير وسلمان شكر وخالد محمد علي وغيرهم من مبدعين قرأ نصير شمّه في إبداعهم وحاول أن يكمل المسار والمسير وتحديداً مع إرث المبدع جميل بشير الذي حاوره روحياً ووجدانياً في أكثر من مناسبة ساعياً إلى خلق حالة من التواصل مع تلك التقاليد الكبرى التي أطرت مفهوم العزف والكتابة لآلة العود التي أضحت مع نصير شمّه وغيره من مبدعين مثار تقدير واحترام بعد أن كانت قابعة باستكانة خلف المغني تردد صدى آهاته وعذاباته التي لا تنتهي.
إنه نصير شمّه، الذي يحفر مسيلاً عذباً لآلة العود، يكتب موسيقاه من عوالم ومناخات روحية وفلسفية تأملية مستقاة من خزين ثقافي وحضاري ممتد من بابل وأكاد وتراث العباسيين والأندلس وغيرها من ثقافات شكلت وجدانه وثروته المعرفية التي وظفها بشكل مبهر في حوارياته السامقة مع الآخر في الشرق والغرب على حد سواء «آلة السيتار، والبيانو، والفلوت، والغيتار، وغيرها من تجارب مثمرة وضعت نصير شمّه وعوده في مصاف الأسماء الكبيرة بإبداعها ومساهمتها العميقة في خلق حالة مستدامة من الجمال الموسيقي النادر الذي ما بعده جمال.
علي الأحمد
المصدر: الوطن
إضافة تعليق جديد