حنا مينه: حب الكتب والأبناء
كثيراً ما يسألونني كيف صرت كاتباً، ومتى فكرت في الكتابة، وفي أي من أعوام عمري بدأت بها؟ وهذه الأسئلة المفترض أنها معروفة،.
بسبب أنني أجبت عنها مراراً، تأتي في سياق استغراب هو في موضعه تماماً، لكوني لم أتجاوز، في دراستي المرحلة الابتدائية، فأنا من مدينة اسكندرونة، في اللواء العربي السليب ولم تكن في هذه المدينة إلا مدرسة ابتدائية واحدة، اسمها «المدرسة الرشدية» وعلى من يريد الدراسة بعد المرحلة الابتدائية أن يطلبها في حلب، فكيف يا، أنا الفقير فقراً أسود، أن أذهب إلى حلب، واللقمة في مدينتي بالكاد أحصل عليها.
ومع أنني من أنصار المرأة، وقد كرستها كتاباتي بهية، وطالبت بإنصافها فإن أمي الخادم في بيوت الناس رحمها الله، رغبت رغبة شديدة بإدخالي إلى مدرسة تبشيرية انجيلية في اسكندرونة لأتعلم شيئاً من اللغة الانكليزية، لكنني رفضت دخول هذه المدرسة لا لكرهي التعلم، أو حاجتي إلى العمل لأساعد عائلتي، بل لأن مديرة هذه المدرسة امرأة.. فتأملوا!
ربما كانت هذه ذريعة تعلة، حجة لا أكثر، فالحقيقة الكامنة في اللاشعور، تخفت تحتها، أو في ثناياها قصدية مغايرة مردها إلى الفقر الذي كنت فيه والجوع والعري والحرمان الذي أكابده، وضرورة أن أعمل مهما يكن نوع العمل كي أساعد عائلتي ونفسي, ولم أجد عملاً أنا الصبي إلا أجيراً عند مؤجر دراجات، وهكذا انتقلت بصفة أجير من عمل إلى عمل حتى صرت أجير حلاق، وتعلمت هذه المهنة ومارستها، قبل أن أنتقل منها إلى الصحافة، وبصفة أجير بادئ الأمر.
كنت كالحديدة تحت مطرقة الحداد، الحديدة التي ألقى بها الزمن في نار التجارب الكاوية، ثم تطرقت، تشكلت اجتازت المعبر البارد أضاعت طفولتها كما قلت سابقاً في الشقاء وشبابها في السياسة وتابعت خلال ذلك كله المطالعة بنهم شديد, الأمر الذي أفادها في كتابة الرسائل للجيران وفي كتابة العرائض للحكومة تطالب بإصلاح هذا الرصيف وتزفيت هذا الطريق ومناصرة للذين كانوا يجاهدون سراً وعلناً لتحقيق العدالة الاجتماعية.
كان الخروج إلى العالم أحد هواجسي وبدايتي فيه توطدت في البحرية الفرنسية في سورية يتساءل كونديرا قائلاً: ما هو الزمن الانساني؟ الزمن الانساني بالنسبة لهذا الكاتب الذي يغلب التشاؤم على أكثر ما يكتب، يمكن تحديده بثلاثة نماذج أساسية تبعاً للجانب المسيطر من الزمن بالنسبة لكل إنسان مع نفي وجود رياضيات وجودية, إنه يؤمن بالمصادفات، في جانبها العلمي مع أن المصادفة بنت الضرورة ويلعب القدر أو يشغل حيزاً كبيراً في وقوعها.
توماس مان يعتقد ويقدر الزوالية أكثر من أي شيء آخر لكن الزوالية قابلية الحياة للفساد والتلف، ولأنها كذلك فإن الأمر محزن حقاً، وهذا موضع تساؤل لديه يجيب عنه: «الزوالية روح الوجود بالذات تسبغ القيمة والكرامة والاهتمام على الحياة, الزوالية تخلق الزمن, والزمن هو الجوهر, الزمن, بالقوة على الأقل, هو الهبة الأسمى والأكثر نفعاً, الزمن يتطابق مع كل شيء خلاق وفعال, وكل تقدم نحو هدف أرفع).
هنا تتجلى التفاؤلية بالزمن فلولا أن الزمن دولاب له قابلية التبديل والتغيير لتجمدت الأحداث ومع تجمدها يتجمد كل ما ينتج عنها تماماً, إذن سكون وتغييب كامل للحركة وهي التي أثبت العلم أنها قانون وجودي تدفع إلى أمام مبدلة الأحوال, مؤدية مع كل يوم يمر إلى اكتشاف جديد نجد مقياسه في القرن العشرين الماضي ما بين بدايته والنهاية, وكم في نهايته من فتوحات هي ثورة في عالم الالكترونيات وقفزة بغير قياس في المعلوماتية.
هانز ميرهوف، في كتابه «الزمن في الأدب» يقف إلى جانب هذه التفاؤلية أيضاً يعتبر الزمن مولد الأشياء كلها والإمكانية الدائمة للخلق والجدة والنمو.
إن النظر إلى الزمن من هذه الزاوية يرينا إياه عنصراً خلاقاً ومنتجاً, وهو الينبوع الدائم لعمل الأشياء والخبرات والذات وتحسينها, وهو حسب الاصطلاح لأرسطو طاليس الشرط الدائم لتحويل الصيرورة إلى كينونة، والقوة إلى فعل والنقص إلى كمال، ويصبح اتجاه الزمن تلك الحالة التي تتعلق فيها بالاعتقاد بتحقيق الآمال، بفرحة الخلق والتقدم وبالجهد والكد كوسيلة لتحصيل السعادة الشخصية والخلاص.
عليَّ، كروائي أن أعترف أن كل هذه الآراء حول الزمن قد تحصلت لي بعد كتابة معظم رواياتي, لكنني الآن لا أجد تعارضاً بين نظرة أبطالي الإيجابية وبين النظرة الإيجابية إلى الزمن, إنهم مستمرون في النشاط والكد, وكل من الكد المستمر والنشاط الدائم هو طريق لمجابهة التضمينات السلبية لتقدم الزمن التصاعدي نحو النهاية, نحو الموت.
لا أستطيع الجزم أن توافق نظرة شخصيات رواياتي مع صيرورة الزمن وما يملكونه من إيمان نضالي ومن حماسة وشجاعة أي من قدرة على عدم الخوف من الحياة والزمن والموت قد وضع يدي على سبب حب القراء لهذه الشخصيات, لكن أولئك القراء قد فتحوا على أشياء كنت لا أراها.
وإذا كان الزمن لا يتبقع على جسوم أبطالي فلأنهم لا يدعون له وقتاً كي يفعل إنهم يعيشونه بجد, يمتصونه, يحولونه إلى هدف إلى قضية إلى بناء, ويتحلون معه إلى بناة إلى هدافين إلى أصحاب قضية, لنأخذ الخياط في رواية «الشمس في يوم غائم» إنه يدق الأرض بنت الكلب النائمة حسب تعبيره ليوقظها وامرأة القبو تنشد الانتقام من الشر والقهر وتريد أن يكون لها حبيبها الذي ينام معها على السرير ذي الأعمدة النحاسية, والفتى هذا التنين الصغير يسعى لقتل التنين الكبير رمز الاستغلال والبطش, وحتى زكريا المرسنلي هذا الوحش الذي يجد حقيقته الانسانية في الغابة يعمل في صيد السمك ويبني كوخاً للشتاء ويحب ويعود إلى المدينة لقتل الحوت أي لقتل الشر ومن هنا فان الزمن من خلال العمل لا يكون محايداً بين الشر والخير, بل هو مع الخير, العمل نفسه خير, طموح, هدف, مستقبل وفي الصراع الدائر بين العدالة والظلم ستنتصر العدالة بغير شك, سينتصر الخير في مجرى الزمن, ولهذا فان الزمن غير محايد تماماً كما هو غير دائري أيضاً إنه نهر يمضي إلى أمام, وفي النهر لا يعود الماء نفسه مرتين, كذلك الزمن لا يعود ذاته والتاريخ لا يعيد نفسه بكل ظرفه ونمطيته, هناك التغيير دائماً, هناك التبدل، هناك التقدم في الزمن والتاريخ على السواء, والبطل الروائي الذي يعي هذا أو يعيشه بحسه المستقبلي وبغير تعارض مع السيرورة فإنه يتفلّت بذاته من الضغط المخيف للزمن, والعالم الاجتماعي من حوله، بفعل العمل والانتاج والخلق والانجاز.
حنا مينه
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد