علاء الأسواني: حتى لا نستبدل استبداداً باستبداد
هذه واقعة حقيقية حدثت عام 2001، بطلها متطرف اسلامي مصري اسمه أحمد عجيزه، قام بتأسيس ما عرف بتنظيم طلائع الفتح وكان مسؤولا عن تنفيذ عمليات ارهابية داخل مصر وخارجها. تمكن عجيزه من الفرار الى السويد، حيث قام بطلب اللجوء السياسي. وبينما تدرس السلطات هناك طلبه، طلبت الحكومة المصرية تسليمه اليها. اعترضت منظمات حقوق الانسان في السويد وقامت بحشد الرأي العام هناك من أجل رفض تسليم عجيزه للحكومة المصرية بسبب سجلها البشع في مجال حقوق الانسان. قامت مظاهرات في السويد تطالب بعدم تسليم عجيزه لحكومته لأنها ستقوم بتعذيبه كما تعذب عشرات الألوف من المصريين.. ارتبكت الحكومة السويدية، ووجدت نفسها في موقف صعب بين ضغط الرأي العام السويدي وضغط الحكومة الأميركية التي أصرت على تسليم عجيزه للنظام المصري.. توصلت الحكومة السويدية الى حل وسط فأخذت تعهدا مكتوبا على الحكومة المصرية بعدم تعذيب عجيزه ثم قامت بتسليمه. بالطبع لم تف وزارة الداخلية المصرية بتعهدها، وقامت بتعذيب عجيزه بطريقة بشعة، وذاع الخبر في السويد فثار الرأي العام من جديد واتهم السويديون حكومتهم بأنها مسؤولة عن تعذيب عجيزه، مما دفع الحكومة الى الاعتذار والاعتراف بأنها ارتكبت خطأ كبيرا بتسليم عجيزه الى النظام المصري الذي يعذب مواطنيه ولا يفي بتعهداته. لم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد قام أحمد عجيزه بمقاضاة الحكومة السويدية لأنها تسببت في تعرضه للتعذيب، فحكم له القاضي السويدي بتعويض مالي يبلغ 300 ألف يورو.
هذه الواقعة المشهورة في السويد قرأت تفاصيلها ووجدتني أتساءل: لماذا غضب السويديون من حكومتهم لأنها تسببت في تعذيب أحمد عجيزه؟
ان الذي تعرض للتعذيب ليس مواطنا سويديا وليس رجلا أوروبيا مسيحيا أو يهوديا، وليس حتى لاجئا سياسيا في السويد، كما أنه فعلا متهم في قضايا ارهاب.. الاجابة أن السويديين الغاضبين لا يدافعون عن عجيزه كشخص، وانما يدافعون عن قيمة الانسان كانسان. لا يجوز أبدا لحكومة مسؤولة أن تسلم انسانا الى حكومة أخرى وهي تعلم أنه سيتعرض للتعذيب.. من حق الانسان أن يعامل باحترام وكرامة مهما يكن جنسه أو دينه.. هذا الموقف يشكل في رأيي قمة الرقي الانساني. أن تدافع عن حق الآخرين في المعاملة الانسانية ليس لأنهم من بلدك ولا من دينك، وليس لأنهم يتفقون معك في الرأي أو الموقف السياسي، وانما تدافع عن كرامتهم فقط لأنهم بشر يستحقون المعاملة الانسانية....
متى نتعلم في مصر أن قيمة الانسان أهم من كل انتماءاته؟ متى نتعلم أن أي انسان مهما كان مختلفا عنا يتساوي معنا في الحقوق؟ هل يعلمنا الدين هذا المفهوم؟ هل يجعلنا الدين أكثر انتماء للانسانية؟
الحق أن الفهم الصحيح للدين لا بد من أن يرسخ من انتمائنا للانسانية. بل ان الدين في جوهره ليس الا دفاعا عن القيم الانسانية، الحق والعدل والحرية، وكل ما عدا ذلك في الدين أقل أهمية .. المشكلة أن الدين كثيرا ما يساء فهمه فيتحول من رسالة انسانية راقية الى سبب للكراهية والعنصرية والجرائم. كيف ينتقل المتدينون
من التسامح الى التعصب؟علينا هنا أن نتذكر أن الدين اعتقاد حصري. الدين ليس وجهة نظر بل عقيدة بمعنى أن كل انسان يعتبر أن دينه هو الوحيد الصحيح. المسلمون يعتقدون أن اليهود والمسيحيين قد قاموا بتحريف كتبهم المقدسة والمسيحيون لا يعتقدون في نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. أما اليهود فهم ينكرون المسيحية والاسلام معا ويعتبرون أن المسيح الحقيقي لم يظهر بعد.. أضف الى ذلك مئات الملايين من البشر الذين يؤمنون بالبوذية والهندوسية وعشرات الأديان الأخرى. كل مجموعة من هؤلاء على يقين بأن دينها الصحيح وبقية الأديان خطأ..
هذا الاعتقاد بأنك وحدك تملك الحقيقة قد يجعلك في لحظة ما تحس بأنك أفضل من المختلفين عنك في الدين لأنك على حق وهم على ضلال. هذا الاحساس باحتكار الحقيقة سرعان ما يتحول الى احساس بالاستعلاء على الآخرين ثم يحدث في لحظة ما ان تنزع عن الآخرين صفتهم الانسانية فلا تفكر فيهم باعتبارهم بشرا وانما باعتبارهم نوعا مختلفا عنك : أقباط أو مسلمون أو يهود .عندئذ تكون مؤهلا للاعتداء على حقوقهم لأنهم ليسوا مثلك. أنت وحدك على حق وهم على باطل، فلا يمكن أن يحصلوا على الحقوق نفسها التي تتمتع بها. وهناك أمثلة كثيرة على تحول الدين من جوهره الانساني الى التعصب. عندما دخل عمر بن الخطاب الى بيت المقدس دعاه البطريرك صفرونيوس الى زيارة كنيسة القيامة وبينما هو يتفقد الكنيسة جاء وقت الصلاة فدعا البطريرك الخليفة الى الصلاة، لكن عمر بن الخطاب رفض أن يصلي داخل الكنيسة لئلا يهدمها المسلمون من بعده ويبنون جامعا بدلا منها.. خرج عمر من الكنيسة وصلى على الأرض حيث أقيم مسجد عمر بعد ذلك. كان عمر بن الخطاب يدرك أن تعاليم الاسلام الحقيقي تحافظ على القيم الانسانية وتساوي في الحقوق بين المسلمين وغيرهم.. هذا الفهم العميق للدين، هو عكس ما نراه الآن من بعض المتعصبين في مصر. بعض الاسلاميين يضجون بالشكوى لأن الحكومة الفرنسية منعت ارتداء النقاب في الأماكن العامة، لكنهم في الوقت نفسه لا يجدون غضاضة في منع الأقباط من بناء الكنائس، بل انهم يعتبرون بناء كنيسة في الحي الذي يسكنونه نوعا من الاهانة لعقيدتهم. بعض الاسلاميين يدافعون عن حقوق المواطنة للمسلمين في اوروبا لكنهم في نفس الوقت يعلنون على الملأ أن القبطي المصري لا يجوز أبدا أن يكون رئيسا لمصر. التعصب موجود على الجانبين، بعض الأقباط ينادون بالدولة المدنية لكنهم يرحبون بأن تتحول الكنيسة الى حزب يتحدث سياسيا باسم الأقباط. بعض الأقباط يدافعون عن حرية العقيدة فقط اذا تحول مسلم الى المسيحية أما اذا حدث العكس فانهم لا يجدون غضاضة في أن تحتجز الكنيسة المرأة المسيحية التي أسلمت حتى تردها الى المسيحية.
الفهم الصحيح للدين يجعلنا أكثر انسانية أما الفهم الخاطئ فيدفعنا الى الكراهية والاعتداء على الآخرين. سبب آخر يحيل الدين الى أداة للعدوان هو اقحام الدين في معارك السياسة. السياسي الذي يريد أن يربح أصوات الناخبين لديه طريقتان: اما أن يقنعهم ببرنامج انتخابي واما أن يلعب على عواطفهم الدينية. بعد شهور قليلة سوف تجرى أول انتخابات حرة في مصر منذ عقود ومن يتأمل فيما يحدث الآن يتبين كيف يتم استعمال الدين من أجل الوصول الى السلطة .. في الأسبوع الماضي خرج علينا مرشد الاخوان المسلمين ليتهم المثقفين المختلفين في الرأي مع الاخوان بأنهم معادون للدين... الدكتور محمد سليم العوا، أستاذ القانون والمفكر الاسلامي المعروف عقد مؤتمرا سياسيا صرح فيه أن أي مرشح لمجلس الشعب يجب أن يبدأ حديثه بذكر الله، ثم تحدث العوا عن الذين يطالبون بتأجيل الانتخابات فوصفهم بأنهم غير مؤمنين. أما السيد صبحي صالح القيادي الاخواني فقد قال بصريح العبارة: ان الاخوان لا يعترفون بالمسلم اليساري أو المسلم الليبرالي.. أي أن المسلمين في رأى صبحي صالح فئتان.. فئة ممتازة هم أعضاء جماعة الاخوان المسلمين، أما من يختلفون مع أفكار الاخوان فهم مسلمون من الدرجة الثانية... الى هذا الحد يمكن للدين أن يتحول الى أداة لاحتقار المختلفين مع أفكارنا.. ان الحل الوحيد للتخلص من التعصب هو اقامة الدولة المدنية التي لا يرتب فيها الدين حقوقا سياسية، دولة القانون التي تعترف بحقوق المواطنين جميعا بغض النظر عن اللون والجنس والدين.. الدولة المدنية ليست ملحدة ولا معادية للدين لكنها تحترم أديان المواطنين جميعا بلا تفضيل ولا محاباة. الدولة المدنية ليست جديدة على مصر فقد بدأ محمد على الكبير في ارساء قواعدها، عندما أقام مصر الحديثة ( 1805 ـ 1848 ) على معايير التعليم والكفاءة، بغض النظر عن الانتماء الديني، ثم ترسخ مفهوم الدولة المدنية في ثورة 1919 التي أرست مفهوم المواطنة المصرية لأول مرة، وقد خاض المصريون تحت قيادة حزب الوفد، أعظم الأحزاب المصرية وأكثرها شعبية، نضالا طويلا من أجل تحقيق هدفين: استقلال مصر عن الاحتلال البريطاني واقامة دولة ديمقراطية مدنية. الحق أنه مما يثير الاعجاب أن نقرأ الآن كيف كان زعماء الوفد، من سنوات طويلة، يدافعون عن الدولة المدنية ويرفضون خلط الدين بالسياسة. في عام 1937 أراد الملك فاروق أن يحتفل بجلوسه على العرش في القلعة، ليوحي بأنه خليفة المسلمين، وهنا احتج رئيس الوزراء وزعيم الوفد مصطفى النحاس، لأن الدولة في مصر مدنية وأصر على أن يكون جلوس الملك أمام البرلمان الذي يمثل الشعب... حكاية أخرى معروفة: ذهب أحد السياسيين الشبان ليعرض برنامجه على مصطفى النحاس الذي ما أن بدأ في قراءة البرنامج حتى طواه وأعاده لصاحبه قائلا:
ــ لماذا تتحدث عن الله في برنامج انتخابي؟ عندما تذكر لفظ الجلالة في ورقة سياسية تتحول فورا الى دجال يتاجر بعواطف الناس الدينية.
بقي أن نعلم أن مصطفى النحاس، كان ورعا متدينا، يحافظ على فروض الاسلام جميعا، لكنه كان يعلم خطورة استعمال الدين من أجل الوصول الى الحكم.
ان عبور مصر الى المستقبل يستلزم اقامة ديموقراطية سليمة، لا يمكن أن تتحقق الا في دولة مدنية.. ان تجارب الدول الدينية في العالم مثل السعودية وايران والسودان تدل بوضوح على أن الحكم باسم الدين، يؤدي دائما الى التعصب والطائفية والاستبداد والقمع. من حق الاسلاميين في مصر أن يعبروا عن أفكارهم السياسية مثل سواهم من المواطنين، لكن ليس من حقهم أن يحتكروا الحديث باسم الدين، بحيث يصبح من يختلف معهم في الرأي كافرا أو عدوا للدين. من حقي أن أعارض أفكار الاخوان أو السلفيين بغير أن يعتبرني أحد معارضا للاسلام نفسه. لقد قام المصريون بثورتهم العظيمة في 25 يناير وقدموا الشهداء من أجل تحرير مصر من نظام مبارك الفاسد الظالم واقامة الدولة المدنية الديموقراطية.
لا يمكن أن نتخلص من الاستبداد السياسي لنقع في براثن الاستبداد الديني.
... الديموقراطية هي الحل ...
علاء الأسواني- السفير- ينشر بالتزامن مع جريدة «مصر اليوم»
إضافة تعليق جديد