ميغيل دي أونامونو يستعيد «حياة دون كيخوته وسانتشو» كأسطورة جوّالة
«دون كيخوته» هو الشخصية الرئيسية التي تمنح العنوان لرواية الكاتب الإسباني ميغيل ثربانتس التي صدرت بعنوان «قصة النبيل العبقري دون كيخوته دي لا مانتشا»، وكان صدورها أول مرة في جزأين، الأول منهما عام 1605، بينما صدر الجزء الثاني بعد عشرة أعوام، في العام 1614. وتعتبر رواية ثربانتس من أوسع الكتب قراءة في العالم. وقد تحول بطلها دون كيخوته مع مرور الزمن إلى أسطورة ونموذج للمغامر المثالي المناضل ضد الجور. فدون كيخوته هو فارس جوال يظهر في عصر اندثار الفروسية الجوالة، كما أن سماته الشخصية تختلف اختلافاً تاماً عما اتصف به أبطال روايات الفروسية في العصور الوسطى، بل إنه لا يشاركهم سمة واحدة من سماتهم. فهو لا يتحدر من أسرة مشهورة، وليس شاباً، ولا قوياً، ولا وسيماً. وهو فوق ذلك كله غير بارع في استخدام الأسلحة، بل على العكس من ذلك كله. إنه صورة للبطل المضاد. فهو مجرد نبيل ريفي خمسيني ومفتقر، يتلهف إلى العيش في عالم متخيل يستمده من كتب الفروسية التي أدمن قراءتها، ويخفق في مغامراته كلها. ومع ذلك، فإن دون كيخوته شخصية حميمة، تجمع بين الجد والهزل وتفيض بأعمق المشاعر الإنسانية. ومع أن كل قارئ يعرف منذ البدء أن دون كيخوته مجنون، إلا أنه من النادر ألا يشعر المرء بالتعاطف، وحتى بالتطابق معه، والعثور على الذات فيه. إنه مجنون يريد «إصلاح الاعوجاج»، وجعل العالم أكثر عدلاً، ويناضل من أجل تعميم الخير والحب.
إحدى أعظم قيم رواية ثربانتس هي إبداعه ثنائية البطل المتمثلة في دون كيخوته وتابعه سانتشو بانثا. دون كيخوته هو رمز المثالية والخيال والروحانية، أما سانتشو فبرغماتي واقعي ومادي. الشخصيتان تكمل كل منهما الأخرى، ولا تتعارضان. ولأنهما يمثلان وجهي الكائن البشري، يشكلان تفخيماً شاعرياً للكائن البشري. وعلى امتداد الكتاب تتطور الشخصيتان سيكولوجياً: دون كيخوته يتحول أكثر فأكثر إلى واقعي وكئيب، بينما ينتهي الأمر بسانتشو إلى الاقتناع بأن هناك ما يستحق النضال في سبيل المثل التي يسعى إليها دون كيخوته. يمكننا القول: إن سانتشو قد أصيب بالكيخوتية بينما تحول الكيخوته نفسه إلى السانتشوية.
شهدت القرون الأربعة الماضية، أي الأربعمئة سنة الأخيرة التي تلت صدور رواية ثربانتس العظيمة، سيلاً جارفاً من النصوص التي تحاول تفسير العمل وتقويمه. وكان كتّاب وفلاسفة وأدباء كل عصر يفهمون الكيخوتي على طريقتهم. فيبرزون طبيعته الساخرة من كتب الفروسية، ووظيفته التهكمية من رذائل وعادات معينة، وموقفه في الدفاع عن المثل العليا و«تقويم الاعوجاج»، على حدّ تعبير دون كيخوته نفسه. فضلاً عن التركيز على طبيعة العمل الروائية الواقعية التي دشنت مسار الرواية العالمية بمفهومها الحديث. ويمكن لنا، بالإجمال، تصنيف تلك الدراسات والنصوص في ثلاثة اتجاهات أساسية: أولها يحاول التركيز على دراسة الكيخوته كعمل أدبي، وآخر يسعى إلى إبراز الطابع الفلسفي لنص ثربانتس، وموقف ثالث يمكن القول: إنه موقف وسط بين هذا وذاك، يحاول المواءمة بين الدراسة الأدبية والتأملات الفلسفية.
وفي هذا الاتجاه الأخير يندرج كتاب أونامونو المنشور عام 1905، أي عام الذكرى المئوية الثالثة لصدور رواية ثربانتس. وكان قد سبقه في إسبانيا تلك المرحلة كم هائل من الأدب التجديدي الإصلاحي، ساهم أونامونو نفسه في إثرائه، بصورة متوالية وحاسمة، بأعمال ومقالات مهمة حوّل فيها دون كيخوته، ضمن موضوع التجديد، إلى مركز تأملاته حول أسباب انحدار الإسبان وسباتهم، والبحث عن حلول للخروج من ذلك الوضع. فجعل منه مثلاً إلى لفارس الإيمان، الإيمان بمُثل دون كيخوته في إصلاح الإعوجاج ونشر العدالة والمحبة.
وكانت رواية ثربانتس قد تلقت في القرن التاسع عشر دفعة كبيرة حوّلت الكيخوته إلى أسطورة، وذلك بما قدمه الرومانسيون الألمان من قراءات مثالية للكتاب وسعت من انتشاره عالمياً. وفي هذا السياق، جرى تحويل بطل رواية ثربانتس إلى نوع من علبة الخياط، حيث يعتقد كل شخص أنه يرى فيه تلك القيم التي توافقه أيديولوجياً. فالتجديديون حولوا الكتاب إلى إنجيل للتجديد، وفتحوا بذلك أبواب استخدام نص ثربانتس من مختلف المواقع الأيديولوجية، وهكذا نجد أن هناك قراءات فوضوية [8](كما في ما كتبه ألفريدو كالديرون «دون كيخوته فوضوياً» (1905)، وما كتبه بعده بقليل مانويل لوخيلدي في «شخصيات فوضوية من خلال الكيخوته»، وقراءات ليبرالية (لدى الروائي بينيتو بيرث غالدوس على سبيل المثال)... بل إن المواقع المتواجهة مدت يدها واستعانت بالكيخوته لتأكيد معتقداتها، حتى ظهرت سلسلة طويلة من القراءات السياسية المتناقضة في ما بينها، وكلها ترفع عالياً صورة الكيخوته التي تحولت إلى أسطورة حديثة لتقديم تفسير أيديولوجي للحاضر.
ومن المناسب الإشارة إلى أن مقاربة أونامونو لكتاب ثربانتس جاءت ضمن سلسلة أعمال أخرى، سابقة ولاحقة، قدّمها كتّاب جيله، من أمثال: غالدوس، وأثورين، ورامون آي كاخال وسيليو، وكثيرون غيرهم. ويصل دون كيخوته أخيراً إلى يدي أونامونو وقد تحول إلى أسطورة جوالة.
ومن أجل فهم دقيق لهذا الكتاب ولطروحات أونامونو فيه، لا بد لنا من العودة مجدداً إلى أجواء المرحلة التي كُتب فيها، أي مرحلة ما بعد هزيمة إسبانيا في مواجهتها مع الولايات المتحدة عام 1898، تلك الهزيمة الكبرى التي شعرت فيها إسبانيا بالإهانة، وانعكست على كافة مستويات الحياة اليومية الإسبانية، فكان هناك اختلال توازن هائل، وجرى التعبير عن ذلك الاختلال على المستوى الفكري من خلال كتّاب جيل 98 الذين عكسوا في أعمالهم احتضار الكارثة الاستعمارية والغم الوجودي لموضوع إسبانيا، وأسهم بذلك أونامونو في بعض مؤلفاته. في ذلك المشهد القاتم نفسياً واقتصادياً واجتماعياً، عكف عدد من الكتّاب الذين يمثلون جيل 98 على المواجهة، وتدفق على المجتمع الإسباني سيل جارف من النقد والأفكار المطالبة بانبعاث وطني.
لقد كانت إسبانيا تنام على غار أمجادها الغابرة، وأتتها اليقظة المريرة... لتغرق من جديد في إغفاءة أشد عمقاً، أو لتهرب من العار. هذه هي إسبانيا التي وجد جيل 98 نفسه فيها، وأراد أن يوقظها بإظهار روحها الخاصة، جوهرها، هوية إسبانيا وشخصيتها.
وقد كان الكيخوته، طبعاً، هو الرمز الوطني الذي اختاره ذلك الجيل للتجديد الأخلاقي، كبطل يقود كل الجهود. فضائله وروحه المتحدية وإخلاصه، وبنيان أخلاقه المعافاة هي ما يرسم طريق الخلاص للشبيبة الجديدة. وهكذا ظهرت مؤلفات مثل: «تأملات الكيخوتيه» (1914) للفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيغا آي غاسيت، «ومسار دون كيخوتي» (1905) لأثورين، وكتاب أونامونو هذا الذي بين أيدينا.
كيخوته أونامونو
رأينا كيف أن كتّاباً كباراً كثيرين اهتموا بدراسة الكيخوته وتحليله بدقة، وفعلوا ذلك كجزء من مهمتهم الأدبية ومن حياتهم الشخصية. وفي هذه الحالة، أحد أفضل ممثلي أولئك الكتّاب هو ميغيل دي أونامونو بكتابه العجيب: «حياة دون كيخوته وسانتشو». ففي هذا العمل يدخل أونامونو حتى نخاع تربانتس والكيخوته ودولثنيا وسانتشو. وقد فعل ذلك بزخم وعمق جعلا معاصره وصديقه الشاعر أنطونيو ماتشادو يقول فيه قصيدة، نقتطف منها:
هذا الدون كيخوته
ميغيل دي أونامونو، الباسكي القوي،
يرتدي الدروع الفجة
ويعتمر الخوذة التافهة
خوذة ابن المانتشا الطيب، ويمضي دون ميغيل
فارساً على ركوبة وهمية
يهمز جنونه بمهمازين من ذهب،
غير عابئ بألسنة النميمة.
وعلى شعب من البغَّالين،
يملي دروساً بالفروسية
نشر أونامونو كتاب «حياة دون كيخوته وسانتشو» عام 1905، أي في سنة الاحتفال بالذكرى المئوية الثالثة لصدور كتاب ثربانتس، ولكنه في مقدمة الطبعة الثانية يؤكد أن صدور كتابه توافق مصادفة وليس عمداً مع الاحتفال بالذكرى المئوية الثالثة لطباعة الكيخوته أول مرة. وأنه يجب عدم فهم كتابة على أنه «عمل بمناسبة الذكرى المئوية». والحقيقة أن اهتمام أونامونو بكتاب ثربانتس وبشخصية دون كيخوته ليس وليد لحظة معينة، فلدى أونامونو نتاج كيخوتي حقيقي سابق وتالٍ لكتابه هذا. فقد كتب في العام 1905 نفسه مقالة بعنوان: «حول قراءة الكيخوته وتفسيره»، ومقالة أخرى بعنوان: «ضريح دون كيخوته»، وهو النص الذي أضافه في مطلع الطبعة الثانية من كتابه هذا الصادرة عام 1914، كما أنه يتناول شخصية دون كيخوته في كتابه «الشعور المأساوي بالحياة» وكذلك في قصيدته المطولة «مسيح بيلاثكيث» (......). كما فعل ذلك في دراسات عديدة أخرى، منها: «عظماء، زنوج وشهداء»، و«دون كيخوته وبوليفار» و«حول دون خوان تينوريو». وكان قبل ذلك كله قد كتب ثلاث مقالات في العام 1898، هي على التوالي:«الموت لدون كيخوته!»، و«الحياة لألونسو الطيب!»، و«المزيد حول دون كيخوته».
ويشير أونامونو في الفصل الرابع والستين من القسم الثاني من حياة دون كيخوتي وسانتشو إلى تلك المقالات، وبصورة خاصة إلى مقالة «الموت لدون كيخوته»، ويطلب المعذرة لإطلاقه صرخة الموت تلك ضد دون كيخوته:
«أنا أطلقت ضدك، يا سيدي دون كيخوته، دعوة الموت تلك. فاغفر لي، اغفر لي، لأنني أطلقتها ممتلئاً بنية سليمة وطيبة، وإن كانت خاطئة، بحب لك. ولكن الأرواح الشحيحة، تلك التي أفسد صُغارُها أخذت كلامي على عكس ما أردته، وبينما أنا أسعى لخدمتك، ربما أكون قد أسأت إليك... سامحني إذاً يا عزيزي دون كيخوته على ما يمكن أن أكون قد سببته لك من أذى حيث أردت لك الخير. أنت من أقنعتني بخطر الوعظ بالعقل بين تلك الأرواح المتحجرة. أنت من بينت لي الشر الذي يتبع توبيخ رجال ميالين إلى أشد أشكال المادية فظاظة، حتى لو تنكروا بالروحانية المسيحية»
يهرب أونامونو في «حياة دون كيخوته وسانتشو» من الطريقة التقليدية في قراءة عمل ثربانتس التي سار عليها التجديديون من أبناء جيله. ففي لجوئه إلى طرح أسطورة الكيخوته، لم يتبع أونامونو الدروب التي خطها غيره من التجديديين الإصلاحيين، وإنما استفاد من شخصية الكيخوته بصورة أساسية ليحدد نفسه في دور المثقف المصمم، في تلك الفترة، على لعب دور البطولة. و«حياة دون كيخوته وسانتشو» ليس في الواقع إلا صورة ذاتية يقدمها أونامونو لنفسه، مزينة بمجموعة من القيم (الإيمان، الشجاعة، الجنون، العاطفة... الخ) كي يعرض نفسه للقارئ كمثال لبرنامج حيوي، وهو برنامج خاص بأونامونو قبل أن يكون لثربانتس. فنجده يقول في مقدمته للطبعة الثالثة: «إن ثربانتس هو الذي أخطأ، وإن تفسيري وتعليقي، وليس تفسيره، هو الأمين». فدون كيخوته هو القناع الذي اختاره أونامونو ليفسر (ويبرر لنفسه) نشاطه العام. ومما لا شك فيه أن أونامونو لا يهمه من قريب أو بعيد تفسير النص الثربانتسي: «أترك للعلماء والنقاد الأدبيين والباحثين التاريخيين المهمة الجديرة والمفيدة جداً في التحري عما كان يمكن لكتاب الكيخوته أن يعنيه في زمانه، وفي الجو الذي أُنتج فيه، وما أراد ثربانتس التعبير عنه فيه وعبّر عنه».
ينطلق أونامونو في تأملاته حول شخصية الكيخوته من إنكار أي مغزى موضوعي إلى هذا الحد أو ذاك في كتاب ثربانتس، ويُبقي خطابه موجهاً، حصرياً، إلى ذاتية القارئ. فنراه ينطلق في خطابه على الدوام من «تجربة» واردة في الكتاب، تُرفع هذه «التجربة» لديه إلى مقولة فلسفية، ثم تُحوّل إلى نظرية، وأخيراً، وفي حركة ثالثة، ينزلق اهتمام النص إلى الحياة.
من مقدمة كتاب «حياة دون كيخوته وسانتشو»، ترجمة صالح علماني، الصادر حديثاً عن «دار رفوف» في دمشق.
صالح علماني
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد