شتاء الديمقراطية الخمسيني في سورية 1/2

08-10-2011

شتاء الديمقراطية الخمسيني في سورية 1/2

الجمل ـ عبد الله علي: اعتاد بعض المفكرين والمثقفين السوريين الإشارة إلى خمسينيات القرن الماضي باعتبارها الفترة التي تمثل ربيع الديمقراطية في سورية وهم يقصدون تحديداً السنوات الأربع الممتدة بين عام 1954 تاريخ عودة الأتاسي إلى رئاسة الجمهورية وحتى عام 1958 تاريخ الوحدة مع مصر. ويرون أن هذه الفترة هي النموذج الذي يجب الاقتداء به في كل عملية إصلاح سياسي داخلية.
ورغم أن الإصلاح يمثل هاجساً لكثير من المثقفين السوريين على اختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية، إلا أن الحديث عنه غالباً ما يفتقر إلى رؤية واضحة وخطة محددة المعالم فيكتفي البعض بالنواح على أطلال الماضي الذي يرى فيه جنة الديمقراطية المفقودة، بينما يسعى البعض الآخر إلى تكريس الواقع الحالي باعتباره يمثل خصوصية الديمقراطية السورية. وبين هذين الفريقين يغدو الحديث عن الإصلاح بمثابة سجال سياسي الهدف منه تمسك كل فريق بوجهة نظره أكثر منه محاولة لاستشراف آفاق جديدة للإصلاح.
تقوم ديمقراطية الخمسينيات ـ كما تسمى ـ على أساس دستور يتبنى نظام الحكم النيابي – الذي يطالب اليوم بعض المعارضين بإعادته - لذا رأينا من الضروري أن نسلط الضوء على هذا الدستور وحقيقة تطبيقه للديمقراطية وذلك من أجل تلمس بعض الخطى الإصلاحية التي قد يكون من شأنها تهيئة المجتمع لتكوين ممارساته الديمقراطية الخاصة دون التقيد بوصفة مستوردة من مجتمع مغاير.
في الواقع فإن دستور عام 1950 لا يختلف في خطوطه الرئيسية عن دستور عام 1928 الموضوع تحت سلطة الاحتلال الفرنسي والذي تبنى نظام الحكم النيابي في تقليد واضح لدستور دولة الاحتلال آنذاك.
وأهم ما يلاحظ أن دستور عام 1950 حافظ على نفس الطبقة السياسية الحاكمة التي تمثل مصالح البرجوازية والإقطاعية فكانت المناصب الأساسية تتوزع بين نفس الأسماء التي كانت تتوزعها في زمن الاحتلال الفرنسي وحتى ما بعد الاستقلال.
ويلاحظ ثانياً أن سورية كانت عرضة لتدخلات إقليمية ودولية مباشرة وغير مباشرة (مصر، السعودية، بريطانيا، فرنسا، أميركا) وكانت الأحزاب الفاعلة آنذاك (لاسيما حزب الشعب والحزب الوطني المنقسمين عن الكتلة الوطنية التي هيمنت سياسياً طوال فترة الاحتلال) تتأثر على نحو كبير بهذه التدخلات وتنصاع لتوجهاتها وأحياناً تتواطأ معها بغض النظر عن المصلحة الوطنية أو القومية، وحالة سورية في ذلك الزمن تكاد تشبه إلى حد التطابق حالة لبنان في هذا الزمن حيث تبدو فيه الأطراف المحلية الفاعلة تابعة بشكل أو بآخر لقوة إقليمية كبرى.
في ظل هاتين الملاحظتين يمكن أن نتبين أن دستور عام 1950 الذي يوصف على أنه أفضل دستور سوري لم ينجح في الواقع بالاختبار العملي الذي دام حوالي ثماني سنوات، وفشل معه نظام الحكم النيابي لأسباب موضوعية عديدة.
وأهم هذه الأسباب، ما سنفصله فيما يلي:

1- البنى الاقتصادية والاجتماعية المتخلفة:
فقد حال الاستعمار الطويل، دون تطور البنى الاقتصادية الاجتماعية، ضماناً لدوام نهب خيراتها، مما ترتب عليه أنْ وجدت سورية نفسها بعد التحرر من الاحتلال، مضطرة لمواجهة بنية اقتصادية متخلفة تقوم على وسائل إنتاج بدائية. وكانت السلطة الاقتصادية تتركز في أيدي طبقة محدودة من كبار المالكين العقاريين وتشترك معهم فئة محدودة من الصناعيين ورجال المال. كما كان الدخل القومي ضئيلاً بسبب بدائية وسائل الإنتاج من جهة، واستغلال الاقتصاديات الرأسمالية من جهة أخرى ( من خلال التدهور المستمر في حدود التبادل بين المنتجات المصنوعة التي تصدرها هذه الاقتصاديات، والمواد الأولية والغذائية التي تستوردها من الاقتصاديات المتخلفة).
هذا بالإضافة إلى تفشي الأمية، وسيطرة العصبيات القبلية والطائفية وكافة الأمراض الاجتماعية التي لعب الاحتلال الفرنسي دوراً سلبياً في تعزيزها وتدعيمها.
وقد ترتب على هذه البنى الاقتصادية والاجتماعية المتخلفة، تعذر سير النظام البرلماني الغربي على وجه مرضٍ.
فالتقاليد والأعراف المترسخة في هذه البلاد كانت تقف في الواقع إلى جانب السلطة الاستبدادية، ومرحلة الاحتلال عززت هذه التقاليد والأعراف لمصلحتها. وبالتالي كان من الصعب أن يعي الشعب فعلاً أنه صاحب السيادة الأصلي، وأن السلطة تنبثق عنه.
كما أن تكوين الرأي العام السياسي متعذر لانتشار الأمية من جهة، وسيطرة الحكومة على وسائل الإعلام بمختلف أنواعها من جهة أخرى.
والسلطة الاقتصادية والاجتماعية التي تحتكرها فئة قليلة، لا بد أن يكون لها انعكاس على المجال السياسي، حتى ولو أجريت انتخابات عامة وحرة ونزيهة فعلاً وكان التصويت سرياً. لأن أغلبية المواطنين الساحقة من العمال والفلاحين الأميين، اعتادت اجتماعياً على سيطرة الملاكين وأصحاب العمل، لاسيما أن شدة العوز والإملاق والسعي وراء لقمة العيش لا تترك لهم أي حرية أخرى. ويدعم هذه السيطرة طبقة من رجال الدين ترتبط بصورة مباشرة أو غيرة مباشرة بالطبقة المسيطرة اقتصادياً.
أما السلطة المركزية فإنها كذلك تستند إلى هذه الطبقة، ويكون موظفو الدولة في خدمة مصالحها. وكذلك الأمر بالنسبة للأحزاب التي لم يكن من الممكن إلا أن تكون ضعيفة التكوين والتمثيل، بسبب عدم وجود طبقة بورجوازية قوية من ابناء المدن، وعدم وجود طبقة عمالية كبيرة لضآلة التصنيع، مما جعل هذه الأحزاب مسخرة لخدمة المسيطرين اقتصادياً.
والنتيجة الأساسية التي ترتبت على هذه البنى الاقتصادية والاجتماعية المتخلفة، هي إلغاء إرادة الناخب من الناحية الفعلية، وقيام مجالس نيابية تتألف بالدرجة الأولى من الملاك وممثلي الطبقات المسيطرة، لا من العمال والفلاحين.
ويضاف إلى كل ما سبق، أن النظم الغربية تتطلب وجود عدد كافٍ من القيادات السياسية والكوادر الإدارية بما يسمح باستبدال الفريق الحاكم عندما يفقد ثقة الناخبين. الأمر الذي لم يكن متوافراً في ذلك الحين بسبب الفقر الذي خلفته المرحلة الاستعمارية في كافة المجالات.

2- مقتضيات مكافحة التخلف
المشكلة الأساسية التي واجهتها سورية وغيرها من الدول التي تحررت من الاستعمار، هي القضاء على التخلف الاقتصادي والاجتماعي واللحاق بركب الدول المتقدمة. وهي بطبيعتها مهمة شاقة بسبب الافتقار إلى البنى الاقتصادية الأساسية التي تكون نقطة الانطلاق باتجاه التقدم والتطور، فهي تفتقر إلى رأس المال والخبرة الفنية كما تفتقر إلى وسائل المواصلات والاتصالات والمرافئ والمطارات وغيرها.
وتزداد مهمة القضاء على التخلف مشقة بسبب العاملين التاليين:
النمو الديموغرافي المتسارع في البلاد المتخلفة، بحيث يمتص تزايد عدد السكان جزءاً كبيراً من ثمرات التقدم المتحقق، فتجد هذه الدول نفسها نتيجة ذلك في مستوى راكد من النمو.
وأن البلاد المتقدمة، كانت تحقق يومياً قفزات كبيرة من ناحية تطورها بحكم تراكم رأس المال والخبرة الفنية، مما يؤدي إلى اتساع شقة التباين بين الدول المتخلفة والدول المتقدمة بدلاً من سد الفجوة أو تصغيرها.
وهكذا لم يكن أمام الدول المتخلفة سوى سبيلين اثنين لا ثالث لهما لمكافحة التخلف:

1-    إما أن تسلك السبيل الليبرالي، وتترك عملية النمو للمشروعات الخاصة، وهو ما كان مطبقاً إلى حدّ  ما في مرحلة تبني النظام النيابي، وثبت أن النتيجة لا يمكن أن تكون إلا فشلاً ذريعاً. لأن الدخل القومي ضئيل في الأساس، وبالتالي لم يكن ثمة مجال لادخار واسع يتجه نحو التوظيف والاستثمار. إضافة إلى أن فئة محدودة من الملاك وأصحاب المال ورجال الصناعة والتجارة، كانت تقتطع نسبة كبيرة من الدخل القومي بحكم تفوقها الاقتصادي تنفق معظمه في وجوه كمالية وترفية حفاظاً على نمط من الحياة يقلد النمط الرأسمالي الغربي. أما المعونات الأجنبية فلا تقدم إلا بشروط استعمارية أو شبه استعمارية، تزيد من تخلف البلد وتمنع تغيير البنيان الاقتصادي، وتستنزف تحت مسمى الأرباح والفوائد جزءاً هاماً من الدخل القومي.

2-    أما الطريق الثاني فهو تدخل الدولة على نطاق واسع، وأن تأخذ على عاتقها مسؤولية تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي بعد القضاء على رواسب التخلف، وأن يكون التخطيط الاقتصادي والاجتماعي الشامل أداة عملها. ولا يمكن للدولة أن تحقق هذا الهدف إلا من خلال اقتطاع نسبة كبيرة من الدخل القومي وتوجيهها إلى نحو الاستثمار. وبسبب انتشار الفقر في شرائح واسعة من المواطنين، فإن الاقتطاع سيكون بطبيعة الحال على حساب الطبقات المسيطرة اقتصادياً، وهو أمر لا يثير الرضا والارتياح لدى هذه الطبقات، ولا يمكن تحقيقه إلا بسلطة الدولة والإكراه بعد تجريد هذه الطبقات من نفوذها السياسي. مما يعني في النتيجة تعذر التوفيق بين مقتضيات التقدم ومقتضيات النظام البرلماني.

3-    التهديدات الاستعمارية:
إلى هذين العاملين الداخليين: البنى الاقتصادية والاجتماعية، ومقتضيات مكافحة التخلف، ينضم عامل ثالث خارجي، هو الاستعمار الجديد الذي كانت بوادره قد بدأت بالظهور بعد الحرب العالمية الثانية. فانحسار المد الاستعماري التقليدي وإعلان استقلال البلاد المستعمَرة، لم ينهِ التهديدات الاستعمارية واستغلالها للدول المتحررة. فقد رسمت الدول الاستعمارية بقيادة الولايلات المتحدة الأميركية استراتيجية عالمية تهدف إلى تطويق الكتلة الشيوعية من جهة، والعمل على استمرار التبعية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد المستقلة حديثاً. وتبلورت هذه السياسة بسلسلة من الأحلاف والقواعد العسكرية ومواثيق الأمن المتبادل، والمعونات كمشروع النقطة الرابعة وقروض فائض الأغذية الزراعية والقروض المالية والمساعدات والهبات، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول بشكل خفي أو سافر بما في ذلك التدخل العسكري أحياناً بقصد تعطيل سير حركة التحرر العالمية، والحيلولة دون اتخاذها أبعادها الاقتصادية والاجتماعية. فكان ثمة صراعٍ جارٍ بين ما تتطلع إليه الدول المستقلة حديثاً من تحرر، وبين أهداف الاستعمار الجديد.

بتأثير هذه العوامل مجتمعة، انهار نظام الحكم البرلماني لعدم توافر البيئة الاقتصادية والاجتماعية اللازمة لاستمراره، وقام نظام جديد يرتكز على مفهوم الديمقراطية الشعبية التي كانت قد انتشرت في معظم الدول الاشتراكية حول العالم.

التعليقات

تحية للأستاذ عبد الله علي وأنوه له ان من عاد هو شكري القوتلي عام 1954 و ليس هاشم الأتاسي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...