قرن الشيخوخة الديموغرافية
قال «أوغست كونت» إن «الديموغرافيا هي القدر». ويبدو اليوم أن هذا القول يلخّص مصير عدد من أغنى البلدان في العالم. فقد سلّط تقرير التوقعات السكانية العالمية، نصف السنوي، الصادر مؤخراً عن شعبة السكان في الأمم المتحدة، الضوء على العواقب المترتبة على انخفاض معدلات الخصوبة في العديد من الدول المتقدمة.
ومن المؤكد ان «الديموغرافيا» تقدّم مستوى أعظم كثيراً من اليقين مقارنة بالاقتصاد. وإذا لم يكن معدّل الخصوبة (عدد الأطفال لكل امرأة)، أعلى من مستوى الإحلال من جيل إلى جيل، أي بمعدل 2,1، فلن تحدث زيادة طبيعية في عدد السكان. ولكن هذا المعدّل تراجع إلى مستوى 1,3 عند مطلع القرن الحالي في ألمانيا واليابان، وإلى أدنى من ذلك في إيطاليا وروسيا الاتحادية وكوريا الجنوبية.
وفي موازاة الأثر الديموغرافي الحاصل عن انخفاض معدلات الخصوية، ثمة ارتفاع مطرد في متوسط العمر. غير أن اليابان ـ الرائدة في العالم في هذا المجال ـ قد شهدت ذروتها السكانية عام 2008، قبل ان يبدأ التراجع فيها. أما روسيا فقد انخفض عدد سكانها بحدود ستة ملايين نسمة، اعتباراً من عام 1993.
إن عدد سكان أوروبا سوف يبلغ ذروته في أوائل العقد الثاني من القرن الحالي، قبل أن يتراجع ليتبع مسار اليابان وروسيا وألمانيا، ومعظم دول أوروبا الشرقية، التي بدأ عدد سكانها في الانحدار. وقد تنجح موجة ضخمة من الهجرة في سد الفجوة، علماً أن هذا الاحتمال يلقى مقاومة سياسية عنيفة في أغلب الدول المعنية.
هناك عدد من علماء الديموغرافيا يؤكدون على أن القرن الحادي والعشرين هو «قرن الشيخوخة الديموغرافية». ويبرز مؤشران أساسيان هما «نسبة إعالة المسنين»، ما فوق الـ65 سنة، ونسبة الأفراد في سن النشاط، الأمر الذي يقسم السكان إلى نصفين.
إن تداعيات الشيخوخة السريعة عديدة، وأهمها انكماش قوة العمل، وضيق حيّز الحركة المتاح لإقامة المشاريع، وهو ما يعمل على تقويض احتمالات النمو الاقتصادي، فضلاً عن الخطر الداهم الذي يهدد استدامة أنظمة معاشات التقاعد القائمة على سداد المستحقات خطوة بخطوة، وزيادة تكاليف الرعاية الصحية المرتبطة بالسكان المسنين.
على الصعيد السياسي، فإن هذا يُترجم تفضيلاً للإنفاق على الرعاية الاجتماعية أكثر من الانفاق على الدفاع أو الاستثمار. وهذا من شأنه ان يؤدي إلى تفاقم الضغوط المطالبة بزيادة الدين العام والحاجة إلى العمال الأجانب لشغل الوظائف الشاغرة.
غير أن الدولة المتقدمة الكبرى الوحيدة التي سوف تظل محصّنة بنيوياً ضد هذه الاتجاهات، هي الولايات المتحدة، وذلك بفضل معدل الخصوبة الذي يقترب من مستوى الإحلال من جيل إلى جيل، بالإضافة إلى الهجرة السنوية المرتفعة.
وانطلاقاً من العواقب الخطيرة التي قد يتعرض لها النمو الاقتصادي والاستقرار العالمي، فإن البيانات الديموغرافية الأخيرة، تشير إلى ضرورة الإدارة الحكيمة لتدفقات الهجرة الحتمية من الجنوب إلى الشمال. ولذلك نقول إن الديموغرافيا تعمل على تشكيل مصائر الشعوب، وخصوصاً شعوب الشمال.
بيار بولر، دبلوماسي فرنسي سابق
ترجمة: جوزيف حرب- السفير
إضافة تعليق جديد