«بونساي» رواية الدانمركية كيرستن توروب
على الرغم من المحاولات المتفرقة، التي عرفناها في الماضي، للتعريف بالأدب الاسكندينافي، إلا أن هذه المعرفة، بقيت مختصرة، ولم تصل إلى درجة نستطيع القول معها إننا على دراية بأدب «تلك القارة»، التي أعطت كثيرين في مجالات الثقافة المتــعددة، ومنها الأدب بطبيعة الحال. لكن منذ سنوات قليــلة، بدأت تبدو حركة الترجمة تتفاعل أكثر، ومن المحــتمل أن نعزو ذلك، إلى الهجرة العربية الكبيرة، التي عرفــتها تلك البلدان منذ عقود قليلة، وبخاصة أن قســما كبيرا من الكتّاب العراقيين، توزعوا مؤخرا على تلك البلدان، التي فتحت أبوابها لهم. أمثــلة كثــيرة يمكن أن نسوقها على ذلك. ولربما أيضا، يساهم فوز الشــاعر السويدي توماس ترانسترومر بجائــزة نوبل للآداب، مؤخــرا، في جعــلنا نلتــفت أكـثر إلى ذاك الأدب، الذي يبقى مقتصرا عندنا، على عدد من الأسـماء القليلة.
أسوق هذه الملاحظة، وبين يديّ كتاب الدانماركية «كيرستن توروب»، الصادر حديثا عن «المدى» بعنوان «بونساي»، من ترجمة الكاتبة العراقية المقيمة في الدانمارك دنى غالي، إذ يقدم لنا اسما «جديدا» من أسماء ذاك الأدب، وبخاصة لمن ليس على دراية كافية بعوالم ومناخات تلك البقعة الجغرافية والأدبية.
لمحة تاريخية
في تاريخانية الأدب الدانماركي، مثلما نجد في الموسوعات الأدبية (وأعتمد هنا على موسوعة «لاروس»)، بدأت فترة الستينيات من القرن الماضي تشهد تحولات كبيرة، إذ عرفت تلك الفترة إشكالية كبرى طرحها الأدب وهي إشكالية الهوية، وبخاصة في الشعر والمسرح. من هنا جاءت ثورة الشباب في العام 1968، لتعطي هذا الأدب، ميلادا جديدا، اتجه بقسم كبير منه نحو المجتمع والسياسة، ما أدى إلى ظهور أنواع أدبية جديدة ولا سيما، ما أطلق عليه اسم «الرواية التحقيق»، حيث وجدنا أن القسم الأكبر من ذلك اختصّ بقضية المرأة وحريتها. كذلك نحا الشـعر إلى هذا الاتجاه الاجتماعي الذي عبّر عن قضاياه بلغة يومية صرفة، بينما تفاعل اتجاه آخر، يختــلف جــذريا عن هذا التيّار، لينحو صوب التمظهر اللغوي والبنيوي للشعر.
ووفق هذا التطور، عرفت سنوات 1980 2000 تيّارا أدبيا تمثل في الثورة ضد المجتمع، ومن هذه الأســماء التي تنخرط ضمن هذه الفئة، نجد كيرســتن توروب التي كتبت عن الشرط النسائي وعن تجربته الحياتية. في هذا السياق، تأتي روايتها «بونســاي» التي نكتشفها اليوم باللغة العربية، والتي تهتم كثيرا بالتحليل النفسي لشخصياتها، عبر لعــبة روائية، هي لعبة «تعــدد الأصوات»، حيث نجد أن كلّ شخصية/ صوت، تعيد، من جهتها إنتاج الصوت الآخر.
الجدار القاسي
ثمة سؤال، يطرح نفسه، بداية، حين الانتهاء من قراءة «بونساي»: «كيف يمكن لنا تدمير كائن إنساني؟». ثمة طرق متعددة لذلك. قد يكون عبر ملاحظات نقدية يومية. أو بضربه في أمكنته الحساسة. أو كما نقاط المطر التي تضرب مكانا واحدا على حجر، فتحفره. وإذا ما تعددت الطرق التي يمكن أن نجدها، هكذا يأتي مشروع الروائية الدانماركية الكتابي، إذ يبدو كأنه مشروع لأن تكتب بخنجر إذا جاز القول، أو ربما هو نوع من «التهدئة» اللئيمة (إذا جاز القول أيضا) الذي يتحول إلى هذه العملية من الذهاب والمجيء بين مختلف الأساليب الروائية، أي هذا الذهاب والمجيء في الزمن والمكان، هذه المونولوغات المسجلة بهدف إرسالها إلى المحلل النفسي، صفحات ورسائل بقيت من يوميات حميمة، أفوريسمات، استعارات ومجازات مدهشة في كثير من الأحيان تقودنا إلى عوالم مختلفة، لنصل إلى هذه العملية السردية التي يتأسس عليها العمل الروائي، وفي النهاية بالطبع هذه الشخصيات التي تبدو كأنها عالقة ضمن شبكة ضيقة تحاول أن توقعها في الخديعة، إلا أنها تعرف في النهاية، بلباقة، كيف تتركها ضمن هذا الجدار القاسي الذي يغلفها.
ضمن هذه المسارات، نجد نينا، المرأة ذات الأصول المتواضعة والتي نجحت في أن تصبح فنانة مشهورة (على الموضة)، هناك أيضا ستيفان، زوجها، الذي طلقته، بدون أن تنجح في التخلص من تعلقها به، وهو مخرج مسرحي مشهور يموت من مرض السيدا. من هنا، لا بدّ أن نسأل: من دمر الآخر؟
وإزاء ذلك كله، يجد القارئ نفــسه وهو عالق في دوار لا يعرف كيف يتخلص منه، أو ربما يتواجه مع هذا التعب الذي يلفه من جراء التراكم للأمــاني الذي يواجهه، أو ربما يواجه هذه الأكاذيب المتنقلة والفرضيات المتنوعة، والخيانات المتلاحقة.. كل هذه الأمور هي التي تشكل الأقاصيص التي تنسج عليها الكاتبة خلفية لوحة روايتها هذه، وهي التي تشكل في النهاية، الجزء الذي لا يتجزأ من اللوحة الروائية الكاملة.
عبر قصة حب رئيسية بين نينا وزوجها، المفترقين في كل شيء حيث لا شيء يجمعهما، تروي لنا كيرستن توروب شريحة من هذا المجتمع الذي نكتشفه، حيث تراكم وجهات النظر المتنوعة والمختلفة، في لعبة روائية ذكية، تستحق بالطبع أن نكتشفها.
إسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد