فتاوى تحريم تروّج إلكترونياً لتصنع عالماً يخاف من الحياة
شيخٌ محامٍ رشّح نفسه لرئاسة الجمهورية المصرية، وقد ارتبط اسمه بجماعة «الإخوان المسلمين»، أطلّ في برنامج تلفزيوني، ليفتي بعدم جواز شرب «بيبسي»، لأن أحرف الكلمة هي، في الحقيقة، الأحرف الأولى من عبارة: pay every penny to save Israel، أي، «إدفع كل قرش لإنقاذ إسرائيل». وقد قالها بعينين فاغرتين كأنهما عينا مدام ماري كوري لحظة اكتشافها أن إشعاعات اليورانيوم تجعل الهواء قابلاً لتوصيل الكهرباء.
لن تمرّ فتوى من هذا النوع مرور الكرام على رواد الإنترنت، وقد بات «التفاعل» معها متاحاً، ومتشاركاً. فجعل مناهضو الصعود الأصولي في مصر، من فتواه دعابةً.
إلا أن الفتاوى الوهابية، الآتية بمعظمها من السعودية، تبقى الأكثر عدداً وانتشاراً على الإنترنت، علماً أن التعليقات الواردة أسفلها لا تجمع على نقدها.. وإن نقدتها، فهي تبشّر بمنعٍ آخر، يكون أقل تشدّداً. تعليقات لا تخبر عن الحرية، وإنما تتبرأ منها كتهمة.
في الفتوى الوهابية، يذهب الداعية الشيخ م. ع.، إلى التحذير من جلوس البنت، لوحدها، برفقة أبيها، إذ «قد يوزّه الشيطان إن قبّلها أو ضم جسمها الجميل». قالها على تلفزيون عربي شهير، عندما سألته سيدة، على الهواء، حول آلية التصرّف الشرعية، بعدما اكتشفت أن «شقيقي يتحرش بابنته.. فماذا أفعل؟».
تبدأ المشكلة من أننا ننتهج في مجتمعاتنا ثقافةً تقودنا إلى شيخٍ في حالات شبيهة، بدلاً من الجهات المختصة بأمن المواطنين.. والمصيبة، هنا، أنها لجأت إلى شيخ من تلك الفصيلة، علماً أن أشباهه كثر.. أما الكارثة فتكمن في استمرار الشيخ المذكور بالظهور التلفزيوني الدوري، يبث «فتاوى» على هذا القدر من الترهيب.
قال إن «هناك فتيات شابات، تجلس الواحدة منهن أمام والدها، ويكون جسدها جميلاً، وترتدي ملابس ضيقة أو تظهر صدرها، وهي شابة وأبوها شاب، ومن الممكن أن يتحرش بها إذا سلّم عليها أو قبّلها أو ضمّها». لم تترافق تلك الفتوى مع نكات تهزأ منها، وإنما بنوع من الغضب الجماعي: لا الرجال احتملوا تلك الصورة الجنسية الهمجية عن أنفسهم، ولا النساء احتملن المزيد من التجريم ذوداً عن الجاني، بينما تسلب منهن الحقوق بالحماية كيفما اتفق.
المرأة
في المقابل، تروج عدد من الفتاوى على الإنترنت، تستقبل بالإحتفاء حيناً، أو، في أحيان أخرى، بنقدٍ متحفظ، وبتقبّل مشروط، وبنقاش يشبه النقاش في جنس الملائكة: أفتى الشيخ السعودي عبد الرحمن البراك بحرمة مشاركة المرأة في الانتخابات، لأن «المرأة لا شأن لها في البيعة، وليس من حقها المشاركة في مبايعة الإمام»، علماً أن «الانتخابات من أسوأ ما دخل على المسلمين من طرائق الكافرين».
وقد أكد مرجع فقهي رفيع المستوى في السعودية «عدم جواز إجراء عمليات التجميل بدون حاجة ملحة كوجود الحروق»، مستشهداً بحديث، قيل قبل ولادة عمليات التجميل بألف وأربعمئة سنة على الأقل: «لعن الله النامصة والمتنمصة والواصلة والمستوصلة...».
أما لجنة الإفتاء في السعودية فقد أفتت بحرمة عمل المرأة «كاشييرة» (محاسبة) على صندوق القبض في المحلات التجارية، لأن «الاختلاط يعرّضها للفتنة ويفتن بها الرجال».. علماً أن زوجة النبي محمد الأولى، خديجة بنت خويلد، كانت ربّة عمله.
ومن الفتاوى التي تتواصل مع العصر بلغة غامضة، يذكر مثلاً إصدار شيخين في السعودية أيضاً، «فتوى تنصّ على أن حكم دخول المرأة إلى الإنترنت من دون وجود محرم، حرام»، فـ«النساء مخلوقات كسائر مخلوقات الله، لكن فيهن ضعفٌ بيّنٌ وهوى يأخذهن نحو الحرام... ولا يجوز دخولها إلى مواقع الشبكة ما لم يكن برفقتها أحد المحارم الشرعيين ممن يعرفون بواطن النساء ومكرهن وضعفهن أمام الجنس والهوى».
وتُمنع المرأة من استخدام حارس شخصي، أكانت ربة منزل أم سيدة أعمال، لأن في ذلك «خلوة شرعية». وتمنع المرأة من المشاركة في الألعاب الأولمبية، لأنها «من خصائص الرجال في الإسلام، أما المرأة فرياضتها بين النساء». ولا يجوز، ويحرّم عليها، و«مكرهن وضعفهن».. حتى يخيّل للمرء أن أصحاب تلك الفتاوى يقتنون سجينات، يخشون من هروبهن فجأة، وتنفيذهن لانقلاب يهدّد حيواتهم، فيذهبون في تطرّف السجن حدّ سدّ كل ثغرة يدخل منها هواءٌ لم يصدر عن رئتي السجّان.
كأنهم يأتون من كوكب آخر، لكن صداهم يدغدغ ما في النفوس العربية من رغبات في التخفف من المرأة، عبر إدانتها بشكل يومي، حتى تستحيل حياتها كماضي الجواري المشتهى، ولكن مرفقاً بعبارة: «وإننا إذ نحترم المرأة»، وكأن في ذلك «تواصلاً» مع العصر، وتبرؤاً من تهمة «التخلّف».. علماً أن «اقتناء الجواري» قد عبّر عنه صراحةً، مؤخراً، في تونس.
هي علاقة عدائية، لا بد أن يكون منشأها الخوف. كأنها تعود بالإنسان إلى لحظة التكوين، يوم تبادل الرجل والمرأة نظرة توجّس، قبل أن يكتشفا إمكانيات اللقاء. وها هم أصحاب الفتاوى التحريمية من هواة العودة بالزمن إلى الوراء، يعودون إلى اللحظة الأولى، ويلغون كافة الإمكانيات، ويتبارون في المنع، ذوداً عن الذات. وما الاستفاضة حول ما يمكن للمرأة فعله في حال استخدمت الإنترنت مثلاً، إلا دليل قلق مرضيّ، وخوف هوسي. وبما أنهم يمتلكون سلطةً ما بين أيديهم، فسخّروا كافة طاقاتها، المعقولة وغير المعقولة، في حرب «جهادية» ضد العدو الأول.
فتاوى مضادة
ويستغرب أن تروج تلك الفتاوى عبر الإنترنت، نظراً للطبيعة المتناقضة ما بين المضمون والوسيط. فهي تعيد صياغة الإنترنت، لا كوسيلة لترويج المعرفة، وإنما للحدّ منها، مجدداً، تماماً كما هي الحال في المدارس. وهو فعل بادر إليه «المانعون» في مجتمعاتنا مع ولادة كل وسيط جديد، من الراديو إلى التلفزيون، فالإنترنت...
في المقابل، تصدر فتاوى أقل هوساً بالمنع، إلا أنها لا تلقى الصدى الذي تفوز به فتاوى التحريم، حتى ولو أتت إشكاليةً في مقاربتها للدين ومعتنقيه. فقد أفتى المفكر الإسلامي جمال البنا، وهو الشقيق الأصغر لمؤسس جماعة «الإخوان المسلمين» حسن البنا، بإباحة القبلات بين الشباب والفتيات غير المتزوجين، في الأماكن العامة. وقد طرح آراء حول الحجاب قائلاً إنه «لا حاجة الآن للحجاب لأنه يعوق المرأة عن حياتها العملية.. الحجاب فرض على الإسلام ولم يفرض الإسلام الحجاب.. فشعر المرأة ليس عورة، بل يمكنها أن تؤدي صلاتها بمفردها وهي مكشوفة الشعر». ويكمل إن «المجتمعات الذكورية التي تخصص المرأة للبيت فقط هي التي تلح على هذه النقطة، ثم إن الاختلاط ضرورة، حتى لو حدثت بعض الأخطاء، فالإنسان، عندما تصدمه سيارة في الشارع، لا يكون ذلك مدعاة لإلغاء السير فيه». ويمضي في مسيرته باتجاه الزواج قائلاً إن «مسألة الشهود توثيقية فقط، فيكفي رضى وتوافق الرجل والمرأة على الزواج وحصول توافق بينهما لتصبح علاقتهما صحيحة، بشرط وجود النية باستمرار هذا الزواج وقبول نتائجه المتمثلة في الإنجاب والإقامة في بيت واحد».
كما أصدر شيخان، واحد تركي وآخر سعودي، فتوى صدّق عليها الأزهر، تبيح ضرب الزوجة لزوجها، دفاعاً عن النفس، في حالات العنف الأسري، باستخدام «نفس وسيلة العنف التي يمكن أن تتعرض لها من الزوج، لردّ الضرر عنها».
تلك آراء وفتاوى إشكالية. تضاف إليها سير الشيوخ في مطلع القرن الماضي وحتى منتصفه، في مصر الأزهر مثلاً، التي تخبر عن زوجات رجال دين بلغوا مراتب الإفتاء، وبناتهم، يظهرن سافرات الرؤوس، بعضهن يرتدين تنانير تصل إلى الركبة، وينتهجن سياقاً عقلانياً في مقاربة المجتمع والعصر.. إلا أن «الضجة» تبقى من نصيب الفتاوى الأشد قمعاً وجنوناً، ربما نتيجة كونها كذلك، وربما نتيجة كوننا نحيا في مجتمعات تستجدي المنع، لا شعورياً، وتخشى الحرية: فالأولى تلغي التبعات وضرورة التعامل معها، أما الثانية فتجيز الحياة، وتملي ضرورة التعامل معها.
إن رواج الفتاوى بالمنع والتحريم التي تبلغ من الغرابة مراتب مفاجئة، يرمي في المجتمع حجارة تعكّر صفاء بعض الحقوق المسلّم بها، ليضحي كل حق منّة، وكل تراجع عنه ممكناً، وكل مطالبة بالمزيد مبالغة. فلا تحقّق ربما الهدف المباشر لها، وإنما تخلق مناخاً عاماً، يتردد أمام كل فعلٍ يتشح بملامح الفردية، ويجعل من أصحاب الفتاوى شركاء في صياغة تفاصيل حياة يفرضون عليها الخوف، ليحفظوا لأنفسهم موقع الحماية فيها.. ومنها.
سحر مندور
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد