نعوم تشومسكي: الحرب النووية لو وقعت.. منذ 50 عاماً
قبل خمسين عاماً، وقف العالم على حافة الهاوية.. كان يمكن لقرارٍ من شخصٍ، أن يدمّر كل شيء. إلا أنّ التعقّل، كان سيّد الموقف.
بدأت القصة في تشرين الأول من العام 1962 عندما كشفت طائرة تجسّس أميركية، أن الاتحاد السوفياتي نشر 100 سلاح نووي تكتيكي خلسة في كوبا، على بعد 90 ميلاً من سواحل الولايات المتحدة. كان قرار الرئيس الأميركي جون كينيدي أنه لا يمكن السكوت عن ذلك، إلا أنه تريث في اللحظات الأخيرة وبقي الموضوع طي الكتمان، إلى أن حُلّت الأزمة «سلمياً».
ولو أنّ كينيدي قرر الاستسلام لردّة فعله الأولية، وشنّ هجوماً على كوبا، كانت ستؤدي الحرب الناتجة عن هذا الخيار، إلى مقتل مئة مليون أميركي، وما يزيد عن مئة مليون روسي.
يقال، إن التاريخ لا يعيد نفسه، لكنّه يتشابه في بعض الأحيان. إلا أنّ أزمة الصواريخ الكوبية ما زالت تعتبر لحظة محورية في تاريخ الحرب الباردة. وهي كذلك مصدر إرشاد إلى كيفية نزع فتيل الصراعات وإدارة العلاقات بين القوى العظمى.
وفي هذا الصدد يروي الباحث والناشط السياسي الأميركي، نعوم تشومسكي، سرداً لوقائع الأزمة التي دامت ثلاثة عشر يوماً، وقف فيها كينيدي والزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف وجهاً لوجه، من دون أن يتراجع أيّ منهما.
قراءة في الأزمة
قبل خمسين عاماً، وقف العالم على حافة الهاوية، عندما أصبح معلوماً للولايات المتحدة، في أواخر تشرين الأول، تربّص الصواريخ السوفياتية في كوبا، والتي كادت تُسقط العالم في كارثة نووية، غير أنّ الأزمة التي بقيت سرية انتهت رسمياً، بعد 14 يوماً.
شيلدون ستيرن، المؤرّخ السابق في مكتبة جون كينيدي الرئاسية، له الفضل الأكبر في بلورة الصورة الحقيقية، حين كان العالم على وشك الانفجار نووياً.
نشر المؤرخ السابق النسخة الرسمية من التسجيلات السرّية لاجتماعات اللجنة التنفيذية التي شكّلها الرئيس من مجلس الأمن القومي، حيث كان يجري التداول بين كينيدي ومجموعة من المستشارين حول كيفية الاستجابة للأزمة.
وخلال الاجتماعات التي سجّلها كينيدي، سراً، والتي قد تؤثر على حقيقة أنّ مواقف الرئيس طوال هذه الجلسات كانت معتدلة نسبياً، مقارنة بمواقف المشاركين في الاجتماعات، الذين لم يعرفوا «أنهم يتحدثون للتاريخ».
ويستخلص ستيرن أنه «لم يحدث من قبل، أو منذ ذلك الحين أن كانت الحضارة الإنسانية على المحك».
ويقدّم صاحب هذه النظرية سجلاً وثائقياً دقيقاً رفعت عنه السرية في تسعينيات القرن الماضي.
كان هناك سبب وجيه للقلق العالمي. «حرب نووية كانت وشيكة لدرجة أنها لو وقعت كانت ستؤدي إلى تدمير النصف الشمالي من الكرة الأرضية». تحذير جاء على لسان سلف كينيدي، دوايت ايزنهاور.
لقد أصدر كينيدي في أعقاب تلك الأزمة قرارات، كان يعلم، بحسب ما كتب غراهام أليسون في مجلة «فورين أفيرز»، أنها تزيد بنسبة تقارب الخمسين في المئة من خطر احتمال نشوب الحرب النووية، وهو تقدير يعتبره أليسون واقعياً. وأخذت هذه التقديرات تعلو حين بلغت المواجهة ذروتها في خطة «يوم القيامة» السرية، «لضمان أن بقاء الحكومة قد وضع موضع التنفيذ» في واشنطن، بحسب وصف الصحافي مايكل دوبس في كتابه «دعابة الحرب الباردة» حول أزمة الصواريخ الكوبية.
ويروي دوبس عن دينو بروغيوني، عضو رئيسي سابق في فريق وكالة الاستخبارات المركزية، الذي رصد تراكم الصواريخ السوفياتية في كوبا، أنه لم ير مخرجاً من الأزمة إلا من خلال «الحرب والدمار الشامل». بينما يصف المؤرخ ومستشار الرئيس الأميركي آرثر شليزينغر أزمة الصواريخ الكوبية بأنها «أخطر لحظة في التاريخ الإنساني». ويتساءل وزير الدفاع آنذاك روبرت ماكنمارا، ما إذا كان سيعيش «ليرى يوماً آخر»، ولكنه اعترف في وقت لاحق، عندما قال عبارته الشهيرة: «كنا محظوظين».
وخلاصة التمعن في ما جرى، تضيف صبغة قاتمة لهذه الأحكام التي تسمع أصداؤها حتى اللحظة.
«اللحظة الأخطر» في عمر الأزمة
هناك أكثر من لحظة يعتبرها المحللون والمؤرخون «الأخطر» في عمر الأزمة، أبرزها يوم 27 تشرين الأول 1962، عندما فرضت الولايات المتحدة حصاراً بحرياً على كوبا.
ويفيد أرشيف الأمن القومي الأميركي، بأنه، استناداً إلى الحسابات السوفياتية، فإنّ قادة الغواصات المتمركزة في الكاريبي، بدأوا بالحديث عن هجوم بالـ«طوربيدات» النووية، يصل حجم الدمار الذي تحدثه، إذا ما أطلقت، إلى الدمار الذي أحدثته القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما في آب العام 1945.
في الدقيقة الأخيرة، تم إحباط قرار بحشد الـ«طوربيدات»، بأمر من القبطان فاسيلي أرتشيبوف، الذي قد يكون أنقذ العالم من كارثة نووية. والسؤال هنا، كيف كانت الولايات المتحدة سترد في حال أطلقت «الطوربيدات»، أو حتى الاتحاد السوفياتي الذي سيتلقى ضربة أميركية؟
وفي مواجهته مع خروتشوف، أمر كينيدي باتخاذ الإجراءات التي كان يعلم بأنها ستزيد من حجم المخاطرة، ليس فقط بوقوع حرب تقليدية، بل أيضاً حرب نووية. ورفع حالة التأهب النووي في الولايات المتحدة إلى الدرجة الثانية (DEFCON 2)، علماً منه بأنَ هذا سيقلل من السيطرة على الأسلحة النووية للبلاد ويزيد من احتمال أن تؤدي أعمال أطراف أخرى إلى تأجيج متتالٍ خارج عن سيطرته، بحسب المحلل الاستراتيجي غراهام أليسون. ويقول إنه سيُسمح، بموجب قرار كينيدي، لطائرات تابعة لقوات حلف شمال الأطلسي، بالإقلاع باتجاه موسكو لضربها نووياً.
والمرشح الآخر للحظة الأخطر هو يوم 26 تشرين الأول. يصف طيار الـ«ب - 52»، الرائد دون كلوسون، الذي قاد إحدى طائرات حلف الأطلسي، «اللحظة الأخطر»، عندما كان على متن الطائرة التي تحمل أسلحة نووية جاهزة للاستخدام، بأنها «كانت لحظة مرعبة».
يقول كلوسون في كتابه «حكايات صريحة لطيار في القوات الجوية»، «السادس والعشرون كان اليوم الأقرب إلى نشوب حرب نووية».. وفي ذاك اليوم، كان كلوسون نفسه في وضع جيد ليطلق زلزالاً محتملاً. ويخلص: «كنا محظوظين أننا لم نفجر العالم، والفضل لا يعود إلى القيادة السياسية ولا العسكرية».
تقارير كلوسون حول الأخطاء والإرباكات وعدم الإدراك لدى القيادات كانت مذهلة، في حين كانت تقارير قواعد القيادة نفسها ضعيفة، وفي غالب الأحيان غير متوفرة.
وبينما كان كلوسون يروي تجاربه خلال المهمات التي كان يقوم بها، لم تكن القيادة الرسمية تمتلك القدرة على منع الطاقم أو الأفراد من تسليح وإطلاق الأسلحة النووية الحرارية، أو حتى إرسال بعثة لمنع القوة الجوية من القيام بعمل متهور من دون أمر استدعاء. يقول: «كان بالإمكان إطلاق كل هذه الصواريخ من دون تلقي أمر من القيادة، لم يكن هناك رادع لأي من الأجهزة».
وكان حوالي ثلث مجموع القوة متمركز في الجو، وفقاً للجنرال ديفيد بورتشينال، الذي كان مسؤولاً رفيعاً في فريق التخطيط للقوات الجوية داخل «البنتاغون».
وبحسب بورتشينال، فقد «أوصل كينيدي، خروتشوف مباشرةً إلى شفا الحرب النووية، ونظر إلى ما وراء الحافة مفتقراً إلى العزم لخوضها».
وتقول رواية كلوسون إن سلطة القيادة الوطنية بقيت تحت إمرة القيادة الجوية الإستراتيجية، ما يعني أن مقرري اللجنة التنفيذية التابعة للأمن القومي والذين يفترض أنهم يفكرون في مصير العالم، كانوا يعرفون أقل مما ينبغي. أما تاريخ الجنرال بورتشينال فلا يعتبر أقل رعباً من تاريخ الآخرين، حتى أنه يكشف عن احتقار أكبر للقيادة المدنية. بالنسبة إليه (بورتشينال)، فإن استسلام الروس لم يكن ولو لمرّة موضع شك، لأن عمليات مقاتلات «كروم دوم»، التي كانت محملة بأسلحة نووية، كانت مصمّمة لجعل الرسالة واضحة بأن الروس: «لا يستطيعون منافسة أميركا في المواجهات العسكرية، ويمكن القضاء عليهم بسرعة».
ويستخلص ستيرن من سجلات اللجنة، أنه يوم 26 تشرين الأول كان الرئيس الأميركي يميل نحو العمل العسكري للقضاء على الصواريخ في كوبا، والذي سيعقبه غزو، وفقا لخطط «البنتاغون». وكان واضحاً أن أي عمل عسكري كان سيؤدي إلى حرب شاملة. وكُشف في وقت لاحق أنّه تم نشر الأسلحة النووية التكتيكية، وأن القوات الروسية كانت أقوى بكثير مما ذكرت تقارير الاستخبارات الأميركية.
وبينما كانت اجتماعات اللجنة تقترب من نهايتها في اليوم ذاته، وصلت رسالة من خروتشوف إلى كينيدي. يقول ستيرن: «كانت رسالة خروتشوف واضحة»:
«سنزيل الصواريخ إذا وعدت الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا».
وفي اليوم التالي، في تمام الساعة العاشرة صباحاً، بدأ اجتماع آخر للجنة التنفيذية، قرأ خلاله الرئيس تقريراً سُلّم إليه، ويفيد بأن «خروتشوف سيسحب كل الأسلحة النووية من كوبا، في حال سحبت الولايات المتحدة صواريخها من تركيا». وكانت أميركا نشرت في تركيا صواريخ «جوبيتر» النووية التي عفا عنها الزمن، إلا أنّ موسكو اعتبرتها تهديداً مباشراً.
يقول كينيدي: «لقد علمنا أن هذا ما كان سيحصل منذ بداية الأزمة». وأدرك الرئيس أنه سيكون في موقف صعب إذا رفض اقتراح خروتشوف، لأن الصواريخ كانت ستسحب عاجلاً أم آجلاً من تركيا، لذلك فإنّ المساومة بدت عادلة.
معضلة حقيقية
إذاً، كان هناك اقتراحان مختلفان وضعهما خروتشـوف في عهدة كينيدي، لوضع حد لتهديد الحرب الكارثية، واقتراح من الاثنين كان سيبدو عادلاً لأي «رجل عاقل».. غير أنّ المعضلة الحقيقية تبقى بكيفية الرد.
أحد الاحتمالات كان قبول الولايات المتحدة بالاقتراحين اللذين قدمهما خروتشوف، وإعلان واشنطن التزامها بالقانون الدولي، وبالتالي إزالة أي تهديد محتمل لغزو كوبا، والمضي قدماً في سحب صواريخها من تركيا، والتي اعتبرها الاتحاد السوفياتي جزءاً من تطويق موسكو.
والسبب الرئيسي لعدم نجاح هذه الفكرة، خرج على لسان مستشار كينيدي لشؤون الأمن القومي ماك جورج بوندي، الذي اعتبر أن «على العالم أن يفهم أنّ التهديد الحقيقي للسلام ليس تركيا، إنما كوبا التي توجه صواريخها ضدنا».
أما القوة الصاروخية الأميركية المتعاظمة، فلا يمكن اعتبارها تهديداً للسلام، وحتى الضحايا الذين راحوا نتيجة الحرب على «الإرهاب» التي شنّتها الولايات المتحدة ضدّ كوبا، أو «حملة الكراهية» ضدّ أميركا في العالم العربي، فكلّها ليست تهديداً للسلام.
وبالطبع، فإنه من السخافة الاعتقاد أن الولايات المتحدة ستلتزم بالقانون الدولي. شرح المعلق الليبرالي المحترم ماثيو ايغليسياس مؤخراً، أن «واحدة من المهام الرئيسية للنظام المؤسسي الدولي، هي شرعنة استخدام القوة العسكرية القاتلة للدول الغربية»، بمعنى أنّ من السذاجة الاعتقاد بأن الولايات المتحدة ستخضع لأي قانون دولي.
في ندوة دولية أعقبت الأزمة، أكد كينيدي «أننا سنـكون في وضع سيئ، لو اخترنا إشعــال حرب دوليـة برفضنا للمـقترحات التي تبدو معقولة». ويعتبر هذا الموقف البرغماتي واحداً من الاعتبارات الأخلاقية العالية جداً.
أزمة سرّية
لم يشكل اكتشاف صواريخ في كوبا صدمة لأحد بقدر ما شكّله للأشخاص المسؤولين عن الصواريخ المماثلة التي كانت الولايات المتحدة قد نشرتها سراً في جزيرة أوكيناوا (أقصى جنوب اليابان) قبل ستة أشهر من بداية الأزمة، والموجَّهة حتماً نحو الصين، في فترة شهدت تصاعداً للتوترات الإقليمية. وقد نكون في موقف أسوأ، لو أنّ العالم أدرك ذلك.
وما زالت أوكيناوا قاعدة عسكرية هجومية لأميركا، بالرغم من اعتراض قاطنيها، والذين لم يعودوا متحمّسين بعد نقل مروحيات «في-22 أوسبري»، وهي أولى الطوافات التي تعمل بتقنية المراوح القابلة لتغيير الاتجاه، إلى قاعدة فوتينما الجوية التابعة لمشاة البحرية الأميركية، وهي منطقة مكتظة بالسكان، حيث خرجت أضخم التظاهرات المنددة بوجود القواعد العسكرية في الجزيرة اليابانية.
وفي المداولات التي تلت ذلك، تعهدت الولايات المتحدة بسحب صواريخها من تركيا، لكنها لم تفعل ذلك علناً أو عبر وثيقة مكتوبة، فقد كان مهماً بالنسبة إليها «استسلام» خروتشوف.
ويضعها دوبس في سياق أنه «إذا تبين أن الولايات المتحدة تفكّك قواعد صواريخها من جانب واحد، وتحت ضغط من الاتحاد السوفياتي، فذلك سيؤدي حتماً إلى تصدع تحالفها مع الناتو». أي إذا استبدلت أميركا صواريخها «غير المجدية» في تركيا بصواريخ أكثر فتكاً، كما كان مقرراً أصلاً، في مقايضة عادلة مع روسيا، فعندها فقط سينهار تحالفها مع حلف شمال الأطلسي.
وللتأكيد على ذلك، عندما سحب الروس من كوبا، القوّة الوحيدة الرادعة في وجه التهديدات الأميركية بالمضي قدماً في الغزو المباشر. غضبت كوبا. وبالطبع هذا مفهوم.
وبالرغم من أن كينيدي تعهّد رسمياً بعدم غزو كوبا، إلا أن تعهده كان مشروطاً، ليس فقط بسحب الصواريخ السوفياتية، بل أيضا بإنهاء أو تقليص الوجود العسكري الروسي في الجزيرة.
يقول الرئيس كينيدي «عندما تخرج كوبا من المعسكر المسلّح، عندها فقط، قد لا نجتاحها»، يضيف «إذا كانت تأمل في أن تكون بعيدة عن التهديد الأميركي، عليها أن تنهي (فسادها السياسي)»، والعبارة هنا لستيرن. وهذا «الفساد السياسي» يتشكل من دعم أولئك الذين يقاومون الاعتداءات الأميركية القاتلة والأنظمة العميلة.
نعوم تشومسكي
السفير نقلاً عن صحيفة «الغارديان» البريطانية
إضافة تعليق جديد