معضلة حلف الناتو: تركيا و "المادة 5"
الجمل ـ ريكاردو دوغولين ـ ترجمة: د. مالك سلمان: رياح الأزمة تهب على طول الحدود التركية مع سورية. فقد تصاعدت حدة التوتر بين الجارين منذ أن قامت قوات المدفعية السورية بقصف قرية "أكشاكالي" في 5 تشرين الأول/أكتوبر. وبعد التصويت البرلماني, تتمتع الحكومة التركية الآن بالشرعية السياسية للتدخل في عمليات عبر الحدود بهدف حماية مواطنيها, بينما استمرت وحدات المدفعية السورية في إطلاق القذائف المتفرقة على الأراضي التركية كما شنت المروحيات الحربية غارات استعراضية فوق القرى التركية الحدودية.
من غير المرجح أن تعمل أي من الحكومتين بشكل منفرد على تصعيد العنف بما أنه ليس لسورية أو تركيا أية مصلحة طويلة الأمد في الدخول في نزاع عسكري كامل. يمكن لأنقرة أن تجد صعوبة في التغلب على الجيش العربي السوري ومن المؤكد أنها ستنجر إلى حرب أهلية؛ ومن جهة أخرى, تستخدم دمشق الآن أفضل وحداتها العسكرية وأكثرها خبرة في محاولة لسحق التمرد الذي دخل شهره الثامن عشر. فإذا كانت المواجهة العسكرية الكاملة بين تركيا وسورية, في الوقت الحاضر, غير محتملة فإن موقع "الناتو" (منظمة معاهدة شمال الأطلسي) في المعادلة الراهنة سيكون أكثر إشكالية.
بصفتها عضواً في هذا التحالف, زودت تركيا "الناتو" بقيمة إضافية استراتيجية واضحة خلال "الحرب الباردة" كما أمنت له موطىء قدم مهم في الشرق الأوسط منذ ذلك الوقت. ومع مواجهة أزمة الحدود الراهنة, يعاني "الناتو", للمرة الأولى في تاريخه, من أزمة هوية حادة. إذ كان الهدف الجوهري للحلف, منذ تأسيسه, هو ردع خصومه لمنع أي عدوان على أي من الدول الأعضاء.
واجهت هذه الكتلة, خلال تاريخها الطويل, تحدياً واحداً وهو أن تطبيق "المادة 5" – التي تنص على أن أي هجوم مسلح ضد أحد أعضاء التحالف هو هجوم ضد جميع الأعضاء – من ميثاقها كان ملائماً بشكل نسبي. فقد خلقت التهديدات المتعددة بالإضافة إلى العوامل غير القومية والعابرة للقوميات بيئة معقدة يكون معها تطبيق الردع التقليدي الاستراتيجي صعباً. في مقالة في "المصلحة القومية", كتب "دوغ بانداو" مؤخراً أن الأزمة السورية الراهنة وغياب الرغبة السياسية لدى الناتو في التدخل لصَدِ اعتداء مسلح على سيادة أحد أعضائه يشيران إلى ضربة كبيرة تلقتها قدرات التحالف في حماية أعضائه.
بعد هجمات 9/11 الإرهابية, ولأول مرة في تاريخها, اقترحت الدول الأعضاء في "الناتو" اللجوء إلى "المادة 5" لحماية الولايات المتحدة وملاحقة أعدائها. لماذا تختلف الحالة الآن, بعد أن شهد بلد عضو ذو سيادة قصفَ أراضيه من قبَل قوات عسكرية أجنبية؟ لو أن قذائفَ هاون أطلقتها قوات "حلف وارسو" قد قتلت خمسة مدنيين في ألمانيا الغربية, هل ستكون ردة الفعل مشابهة؟
في بيئة أمنية متغيرة تصبح مسألة التناسب جوهرية, و "الناتو" يفهم ذلك بالتأكيد. فتوريط التحالف في نزاع إقليمي يتسم سلفاً بالفوضى لن يكون له أي مغزى استراتيجي ولن يساعد, بالتأكيد, في إيجاد طريق لوقف الحرب الأهلية في سورية. النقطة الثانية هي أن الخطر الذي كانت أوروبا الغربية تواجهه خلال "الحرب الباردة" كان, بمعنى من المعاني, وجودياَ. فهجوم واحد من قبَل القوات السوفييتية كان يمكن أن يقود إلى نزاع نووي شامل ينتهي بدمار الطرفين. وهذه ليست الحالة اليوم, فلا سورية و لا تركيا تمثلان تهديداً حيوياً للطرف الآخر. من المؤكد أن توريط تركيا في حرب جارتها الأهلية يمكن أن يؤدي إلى سقوط بشار الأسد, لكنه لن يقود إلى نهاية سوريا كدولة.
وفوق ذلك, إن تطور النزاع الأهلي في سورية يجعل من الصعب على قيادة "الناتو" تحديدَ عدوٍ واحد فقط. مما لاشك فيه أن الهدف العسكري المباشر, في حال تفاقم العدوان على الأراضي التركية, سيكون بنية القيادة والتحكم بالجيش السوري النظامي, ومع ذلك فإن أية ضربة لهذه البنية سوف تخلق مجموعة من القضايا الجديدة. يمكن للرد السوري أن يكون إقليمياً, إن لم يكن دولياً, ومن المرجح أن يتخذ طبيعة غير نظامية وغير متناسق. وقد يلجأ "حزب الله" إلى عناصره في الخارج لزعزعة استقرار أمن أعضاء "الناتو".
إضافة إلى هذه المخاطر العملياتية, يبقى السؤال قائماً وهاماً: ماهي الأولويات التي سيضعها "الناتو" على لائحة الضربة التي سيوجهها لسورية؟ ففي 12 تشرين الأول/أكتوبر, اجتاحت قوات المعارضة قاعدة دفاع جوي سورية وسيطرت عليها. وخلال هذه العملية, حددت المصادرُ تورط عناصر من "جبهة النصرة" – وهي تنظيم متفرع عن القاعدة – كقوة أساسية في المعركة ضد القوات الحكومية. إن أية ضربة تقوم بها قوات "الناتو" ضد القوات المسلحة السورية سوف تختار كأولوية لها الجهاديينَ الذين لا تعتبرهم بأي شكل من الأشكال عناصرَ استراتيجية لدول "الناتو" الأعضاء.
فضلاً عن هذه المسائل المرتبطة بطبيعة النزاع بشكل مباشر, هناك سؤال أكثر حساسية يتعلق بقدرات "الناتو" الحالية. إذ إن الدول الأعضاء تركز على سحب القوات من أفغانستان, بينما تصارع الولايات المتحدة للحفاظ على الجاهزية القتالية في الخليج وتحول اهتمامَها, في الوقت نفسه, نحو مسرح العمليات الآسيوي. فإذا كان تنسيق و تنفيذ العملية الليبية سريعاً من الناحيتين التكتيكية واللوجستية, فإن عملية ضد سورية سوف تتطلب إشراكاً رئيسياً لجميع الدول الأعضاء الراغبين. فمن أجل مواجهة ناجحة لعدوان على تركيا, سوف يكون على "الناتو" القيام بعملية واسعة النطاق. لكن فقدان الشهية السياسية و الوضع الاستراتيجي المتطاول, إضافة إلى أزمات الميزانية الأوروبية الراهنة, تجعل اللجوء إلى "المادة 5", بخصوص التوتر على الحدود التركية السورية, قضية تتطلب الكثير من العقلانية.
ومن الممكن القول أيضاً إن خفة النزاع لا تبرر تدخلاً عسكرياً شاملاً ربما يصبح ضرورياً في حال أصبحت الاعتداءات السورية على السيادة التركية أكثرَ اتساعاً وأطولَ مدىً.
يخلق النزاع السوري الحالي معضلة ل "الناتو". فإما أن يحاولَ فَرضَ ردع تقليدي, ضد الرغبة السياسية لدوله الأعضاء, ويبقى حبيسَ بُنية "حرب باردة" لم تعُد فعالة الآن, أو أن ينظر إلى الوضع الحالي كفرصة فريدة لإصلاح معنى المادتين 5 و 6 من ميثاقه ويضيفَ شيئاً من الدينامية والمرونة لتشكيله. فردة الفعل التي سيبديها التحالف نحو الاعتداءات السورية الراهنة على تركيا ستكون حيوية في تحديد موقف "الناتو" على المدى البعيد. ويمكن تحقيق تطور في قدرات "الناتو" الدفاعية فقط من خلال حوار استراتيجي, من غير المحتمل حدوثه, يتركز حول الوضعية والدور اللذين ترغب الدول الأعضاء في إعطائهما للتحالف. وكما برهنت "قمة شيكاغو" الأخيرة, هناك تغييرات عملياتية قادمة لكن إعادة التفكير الشامل في عقيدة الردع عند "الناتو" يمكن أن تبقى طريقاً تنتهجه المنظمة في المستقبل.
الجمل- قسم الترجمة
إضافة تعليق جديد