تحية إلى فاتح جاموس
التقيت فاتح جاموس في منزله المتواضع في بسنادا (قرية جميلة في محيط اللاذقية)، وأول ما لفتني فيه حبه الواضح، والذي لم يتمكن من مداراته، للأطفال. كان حفيده يحتفل بعيد ميلاده السابع وسط هرج ومرج وصيحات فرح لأطفال سعداء بجهلهم لما يحصل حولهم.
فاتح جاموس هو المعارض السوري، ورئيس «مجموعة التغيير السلمي في سوريا»، والذي سُجن لمدة 19 عاماً، والذي أيضاً يتعرض لأشرس حملة تخوين، لأنه يتحدث دوماً في القناة الإخبارية السورية! فمجرد ظهوره في الإخبارية السورية هو خيانة بنظر تلك الفئة التي تقرر من الخائن ومن الوطني!
لطالما حاولت أن أتخيل كيف يمكن لشاب في ربيع العمر أن يتحمل السجن حوالي ربع قرن! كيف أمكن لفاتح جاموس وغيره أن يتفرجوا على زهرة شبابهم تُسحق أمام نظرهم بين جدران أربعة! كيف لم يروا امرأة طوال عشرين عاماً! كيف لم يدخلوا حديقة ويعبروا شارعاً ويتنشقوا رائحة خبز طازج خارج لتوه من الفرن!
لم أستطع أن أمنع نفسي من سؤال فاتح جاموس كيف تحملت السجن لمدة 19 عاماً؟ أجابني بابتسامة أن الرسم ساعده والكتابة أيضاً... وبأنه كتب روايات في السجن لم ينشرها بعد؟
البعض يقول إنه الحديقة الخلفية للنظام، وأظن أن من يقول عنه هذا الكلام هو في حقيقته الحديقة الأمامية للنظام! أي عار أن يخون البعض فاتح جاموس لمجرد أنه يتحدث دوماً في الإخبارية السورية! ولأنه مع التغيير السلمي في سوريا، ألم يكن باستطاعته أن يفر خارج سوريا، هو الذي شارك في مؤتمرات عديدة في لندن وعواصم كثيرة؟ لماذا لم يفر خارج وطن سُجن فيه 19 عاماً؟ لماذا لم ينجرف في أقوى دوار في العالم: الانتقام.
وأنا جالسة في صالون بيته المتواضع مع شلة من الأصدقاء، تلقى اتصالاً من صديق يخبره أن الطريق إلى دمشق غير آمنة، وأن أحد الباصات ـ من اللاذقية إلى دمشق ـ تعرض لإطلاق نار، ونصحه بأن يلغي سفره إلى دمشق. ولكن فاتح اتصل بشركة «زريق» للنقل وسألها إن كانت قد ألغت رحلتها إلى دمشق؟
ما الذي يدفع برجل في عقده السادس، لا يزال يؤمن بأنه بالإمكان إنقاذ وطن غارق بدم أبنائه وذاهب إلى الهاوية، بالسفر مغامراً بحياته ومستخفاً بالمخاطر لو لم يكن يملك رؤية وإيماناً أن له دوراً ـ مهما كان صغيراً ـ في وقف نزيف شعب أراده الجميع كبش محرقة لمصالح دول عظمى وغير عظمى؟
نبهني فاتح أثناء حديثه عن الأزمة السورية إلى حقيقة غاية في الأهمية، وهي وجود فئة متعاظمة من الشعب تقدر بالملايين، هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم بين مطرقة النظام وسندان المعارضة. هؤلاء الملايين الذين دُمرت بيوتهم ونزحوا ومات العديد من أولادهم وأقاربهم، هؤلاء الذين تؤكد لنا هيئات حقوق الإنسان والمنظمات ذات الألقاب الطنانة المنافقة أن عدد النازحين والمبتلين من ـ الصراع في سوريا والصراع على سوريا ـ سيصل إلى ملايين عدة في آخر العام 2013؟ هؤلاء الكتلة الجديدة المتنامية في المجتمع السوري الصارخة بكل دوي صمتها وقرفها، صمتها الذي يفوق بدويه القنابل والرصاص والصواريخ وراجمات الصواريخ وكل الأسلحة الفتاكة التي دمرت سوريا والسوريين. هؤلاء أصبحوا كتلة كفرت بالإنسانية والسياسة وبالمؤتمرات وبالوعود الكاذبة.
هؤلاء يعرف فاتح جاموس أنه طفح بهم الكيل، ولا يريدون سوى نوع من أمان، سوى ألا يموت من تبقى من أحياء في أسرهم، سوى ألا يدمر ما تبقى من سقف يقيهم شراسة الصراع.
هذا الرجل الإنساني الذي قبل أن يُنحي ذاته جانباً، وأن يحاول إضاءة شمعة محبة ونور وسط ظلام الأحقاد، وألا ينجر إلى دوار الانتقام لشبابه الذي سُحق في السجون السورية... هذا الرجل المتواضع يقبل أن يتكلم في «الإخبارية السورية» غير مبال بهؤلاء الذين يسحقونه باتهاماتهم وتخوينهم له، حتى لو اختلفوا معه فهم لا يحترمون حق الاختلاف. فمن يختلف مع رؤيتهم وطرحهم هو خائن ويجب نبذه والتشهير به واحتقاره. هؤلاء لا يفكرون بملايين النازحين ولا يبالون أن المزيد المزيد من الدم السوري سوف يُسفك! هؤلاء يريدون نصراً من نوع: نجحت العملية لكن المريض مات. وطبعاً المريض الذي يتاجرون به هو الشعب السوري ـ كبش المحرقة.
لا أدافع عن فاتح جاموس فهو أرقى وأهم من أن يدافع عنه أحد، ولا أعرف حقيقة كل أفكاره ورؤيته للوضع في سوريا حتى أنني ـ ولا أخجل من جهلي ـ كنت أخلط بينه وبين «هيئة التنسيق الوطنية».. لا يهمني تحت أي تصنيف أو لافتة يُصنف الناس العاديون أو من يشتغلون بالسياسة والشأن العام، ما يهمني ألا أرى كل يوم أوراق نعي جديدة لشباب سوريين مهما كان دينهم وولاؤهم وانتماءاتهم! ما يهمني ألا أطرق رأسي خزياً وعاراً حين أجد آلاف السوريين في اللاذقية تحت شمس تقسو عليهم أيضاً بلهيبها وفي رطوبة خانقة ينتظرون حصتهم من الإعانات، وأن أجد أطفالهم يبكون من الجوع والعطش والذل! ما يهمني ألا أرى دموع امرأة نازحة من حلب تخجل من رائحة جسدها المُتخمر بالعرق وتقول لي: والله كنت أسكن بيتاً لائقاً، وكنت امرأة ذات كرامة والآن أنا شحاذة.
أية نفسية مريضة تريد سلاماً في سوريا تلك التي تخون وتدين كل من يختلف معها في الرأي والرؤية، أية بلاهة تلك التي تخون رجلاً سُجن 19 عاماً، ولم يهرب ولم ينجرف للانتقام، بل رضي ان يكون صوت عقل وتعقل وسط هيجان وسعار الجنون والدم الذي يجر مزيداً من الدماء. أية جريمة يقترفها معارض لمجرد أن يظــــهر في الإخــبارية السورية!!
هيفاء بيطار
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد