هكذا جسّد البابليون نساءهم: أيقونة تتمتّع بالخصوبة وتحتـضن الرغبات
المرأة، ذاك الكائن الخارق، الذي عانى ما عاناه في محاولة إثبات كينونته، منذ فجر الإنسانية حتى اليوم. مخاضات كثيرة مرت بها، انعكست في كثير من الميادين، يتقدمها النحت. الصورة الجمعية عن آلهة الجمال تلك، يمكن رصدها في التماثيل التي عبرت عنها. حكاية جديرة بأن تروى، هي فصل من كتاب «نساء بابل» لزينب البحراني، صدر أخيراً عن دار قدمس للنشر والتوزيع، ننشره في ما يأتي:
الأم
تُعد تماثيل الأمهات المرضعات العاريات من أوائل النتاجات الفنية التي صنعها الإنسان. ورغم أنها تظهر أيضاً للمرة الأولى في عصر ما قبل التاريخ في بلاد ما بين النهرين، فإنها ليست أول تمثّلات المرأة العارية في تلك المنطقة. ظهرت التماثيل الطينية الصغيرة ذات الوجوه الذاوية التي تضم أطفالاً رضّعاً إلى أثدائها، في جنوب بلاد ما بين النهرين، في العصر العبيدي، بعد عام 4500 ق م. تبدو تلك التماثيل نحيلة على نحو لافت، لكن الأثداء تظهر مكوّرة مع إبراز الحلمة بصباغ بني. كما نلاحظ أن المعصمين والرقبة والكتفين والخصر ملوَّنة أيضاً، ربما للإشارة إلى وجود حلي. يتناقض نحولُ تلك التماثيل إلى حد لافت مع شكل «تماثيل الخصوبة» التي تعود لفترات سابقة في بلاد ما بين النهرين وتلك الآتية من الأناضول وإيران المجاورتين. فقد كانت تماثيل الخصب تُبرز مفهومَ الخصوبة عن طريق المبالغة بحجم الوركين والأثداء وتصغير الأجزاء الأخرى من الجسم، وخصوصاً الرأس، فقد كان يُمثَّل بشكل كتلة مخروطية صغيرة.
وبذلك كانت قيمة المرأة تُختزَل بالصفة المشتركة الدنيا: وهي الإنجاب.
استمر موضوع الأم المرضع باستمرار فن ما بين النهرين، وكان شائعاً على نحو خاص خلال أواخر القرن الثالث وفي القرن الثاني قبل الميلاد [اللوحة رقم 14]. وتشهد عدة لوحات وتماثيل صغيرة طينية، آتية من مواقع مختلفة، على شعبية هذه الصورة. في هذه الفترة بدأت التماثيل تصوّر مثالاً أنثوياً جديداً.
صار الجسد الأنثوي يصوَّر بأسلوب طبيعي، وتركّز الاهتمام الأكبر على الرأس والوجه [اللوحة رقم 15]. أصبحت المرأة الآن ذات وجه مستدير يبرز فيه رونق الشباب يتهدل حوله شعر أجعد يصل إلى ما بعد كتفيها بقليل. وغالباً ما تحيط رأسها بشريط أو بعصابة، ذات قوام نحيل، مستديرة الردفين والفخذين، لكن الأرداف والأفخاذ تبدو نحيلة على نحو لافت إذا كان المقصود بالتمثال التعبير عن الخصوبة. تضم المرأة طفلاً إلى صدرها باليد اليسرى وتلقمه ثديها باليد اليمنى. الثديان أيضاً صغيران ومكوّران. ولا نلاحظ هنا مبالغة في حجم الردفين أو الثديين (...). تمثال المرضعة الشابة النحيلة لا يفيد صراحة فكرة الخصوبة بالمعنى الذي تفيد به التماثيل الصغيرة ذات الأثداء الكبيرة والأرداف العريضة، العائدة لعصور ما قبل التاريخ في الشرق الأدنى. لم تعد المرأة مختزَلة في بضعة أجزاء من جسدها. بل صارت تصوِّر مثال الجمال الفتيّ. مثالٌ يُعنى، كما أعتقد، بصورة المرأة بما هي موضوع الرغبة والمتعة الجنسية الذكورية، لا بصورة المرأة الأم بما هي وسيلة للإنجاب. جرى إهمال قدراتها الإنجابية المباشرة لصالح جاذبيتها الجنسية، فلم تعد القدرات الإنجابية تحظى بالأهمية التي تتمتع بها قدرة المرأة على إغواء النظرة الذكورية المتأملة، إرضاء الناظر الذكر جنسياً.
المغوية
ربما كانت التماثيل التي يُشار إليها هنا باسم «المغوية» قد ارتبطت في أذهان الباحثين المعاصرين بفكرة الخصوبة أكثر مما ارتبطت بها الأم المرضعة. تُصوَّر المرأة في التمثال من هذا النوع بشكلٍ مواجِه للناظر، وهي تمسك ثدييها بيديها [اللوحة رقم 16]، أو تشبك يديها تحت صدرها. وهناك نسخة أخرى للعارية المواجِهة للناظر، وفيها تشير المرأة بإحدى يديها إلى أحد ثدييها وتشير بالأخرى إلى أعضائها التناسلية، لكن هذا النوع ليس شائعاً في بلاد ما بين النهرين قدر شيوعه في المشرق، منطقة سورية ولبنان. صُنِعت معظم تلك التماثيل بدايةً في القرنين التاسع عشر والثامن عشر قبل الميلاد، واستمرت في الظهور من دون توقف لغاية أواخر الألف الأول قبل الميلاد. كان هذا النوع من التماثيل يُعد، عموماً، تمثال الربة عشتار في «مظهرها الخصوبي»، أو تمثال إحدى بغاياها المقدسات، وهو تفسير إشكالي ولا يسري بالطبع في كل الحالات. لكن المعنى الأيقوني لتماثيل العاريات المواجِهات للناظر ليس ما يعنينا في المقام الأول هنا. فخلف هذا الترابط الأيقوني المباشر، ما هو مثال الأنوثة الذي يوحي به تمثال من هذا النوع؟ التماثيل، عموماً، نحيلة القوام ذات أثداء وأرداف مستديرة، لا هي بالصغيرة ولا هي ذات حجم مبالغ فيه (...) الشعر منسدل ويصل إلى الكتفين والجبهة مربوطة بعصابة. ويمكن أيضاً أن يكون الشعر مجدولاً بضفائر عديدة ثخينة بشكل حلقات تصل إلى الكتفين وتحيط بالوجه الفتيّ المدور. وهنا يبدو إضفاء المثالية على الشكل الأنثوي وكأنه يحل محل النسخات الأقدم، ذات الشكل التخطيطي أو المختزَل، التي كانت شائعة في أور، العصر الثالث (القرن الواحد والعشرين قبل الميلاد) عندما كان يجري تأكيد الأعضاء الجنسية عن طريق المبالغة في حجمها بالمقارنة مع نِسَب الجسد. ظلت الأعضاء التناسلية والأثداء تمثل الجوانب الأبرز في الشكل الأنثوي في مرحلة التغيير التي حصلت خلال الفترة بين القرن العشرين والقرن التاسع عشر قبل الميلاد، لكن تأكيد تلك الأعضاء كان يجري إبرازه عبر الوضعية أو حركة التمثال وليس عبر المبالغة في أحجام أجزاء معينة من الجسد واختزال أجزاء أخرى. إظهارُ الجسد مواجهةً وحركةُ الإشارة إلى الثديين والأعضاء التناسلية المصوَّرة بوضوح توجِّه تركيز الناظر إلى تلك السمات الجنسية. هذه المقاربة تُصوّر تمثّل العاريات بصورةِ موضوع للتأمل والإعجاب، تؤكد الإغواء الجنسي، كما في تماثيل الأم المرضعة، لكن العارية هنا تُعرَض للناظر كمصدر للإغواء، وفي العديد من التمثلات، هي تبدو مغرية فعلاً.
المرأة المغرية، إذًا، تغوي الناظر. جسدها معروض على نحو مثير وهي ترفع ثدييها بيديها أو تشير إليهما وإلى أعضائها التناسلية لتلفت نظره. توصف تلك الحركات في الدراسات البحثية بأنها «ترمز للخصوبة»، بمعنى أن الثدي مصدر الغذاء للرضيع كما أن مثلث العانة مصدر إنتاج الذرية. لكن، رغم أنه لا يمكن القول إن تلك الحركات لا علاقة لها بالخصوبة، فإنني أعتقد أنها تؤكد على نحو مباشر الجوانب الإيروتيكية في جسد المرأة. ثمة فئة أخرى من القطع الآتية من بلاد ما بين النهرين تعبّر بوضوح أكثر جلاءً عن إيروتيكية تلك الحركات. فغالباً ما نشاهد على نماذج الأسرّة الطينية تصاوير تمثل أزواجاً في وضع جماع أو امرأة عارية تواجه الناظر مستلقية على السرير (اللوحة رقم 18). أحياناً أخرى نشاهد امرأة عارية مستلقية على السرير مواجِهة للناظر وهي ترفع ثدييها بيديها وتُبقي ذراعيها إلى جانبيها، أو تشبك يديها أمام جسدها. ولا بد أن هذه النسخة الأخيرة، التي تصوّر امرأة بوضع ساكن مستسلم، كانت تحمل إيحاءات جنسية للناظر البابلي. تبدو الأعضاء الأنثوية في كل أنواع مشاهد السرير مصوّرة بعناية. (...) قد يقول قائل: إن تلك التماثيل والتصاوير كان المقصود بها الرمز إلى الجسد الأنثوي بما هو أيقونة المرأة التي تتمتع بالخصوبة، لكن في هذه الحالة، كما في الحالة السابقة، تحمل الصورة طابعاً جنسياً طاغياً. فالإمكانيات الجسدية في تمثلات العري هذه لا توحي بالحمل والإرضاع، بل تَعِدُ بالمتعة الإيروتيكية. كما أن تصوير الجسد الأنثوي إنما هو تصوير لموضوعِ رغبةِ النظرة المتأملة للذكر. ويمكن القول إن التجاهل الحالي للفرج في المناقشات الأكاديمية للتصاوير البصرية هو نتيجة قراءتنا المعاصرة لتلك التصاوير. بل بلغ الطيش بأحد الباحثين حد القول إن مثلث العانة في تصاوير الأنثى ما هو إلا سروال بيكيني من القماش. في حالات أخرى، لا يأتي مؤرخو الفن عادة على ذكْر منطقة العانة الأنثوية الموجودة في التصاوير. ويمكن اعتبار هذا التفادي للموضوع إرث المحرَّم اليهودي _ المسيحي، لأن مواقف سكان ما بين النهرين كانت، في واقع الأمر، مختلفة تماماً عن المواقف الغربية المعاصرة. والواقع أن التركيز، في معظم تمثلات العاريات في الشرق الأدنى، كان ينصبّ على الفرج لا على الثديين، وذلك في ما يتعلق بالحجم وبالتفاصيل المنحوتة. أما في الثقافة الغربية المعاصرة، فقد أدى ارتباط الثديين بالإرضاع إلى منحهما مرئية (visibility) أكبر، وقد أثَّر ذلك الموقف في نظرتنا إلى عاريات الشرق الأدنى. كان رأي بعض مؤرخي الفن الإغريقيين، لبعض الوقت، أن أنموذج الأنثى المواجِهة ذاك كان مستوحى من تماثيل الإناث العاريات، التي شاعت لفترة قصيرة وبمناسبات متباعدة في بلاد الإغريق خلال مرحلة التأثر بالشرق13. خلال المرحلة المذكورة، وصَلَ فنُّ الأيقنة الخاص بالشرق الأدنى إلى بلاد الإغريق بصورةِ قطع عديدة صغيرة الحجم، لكن ما يهمنا هنا هو أن التصاوير من نوع التماثيل العارية المصنوعة من العاج التي تعود إلى القرن الثامن، والآتية من مقبرة (Kerameikos) في أثينا، كانت قد عدَّلت أيقونية الشرق الأدنى لكي لا تتعارض مع المحرّمات الإغريقية. والملاحظ هنا أن تماثيل الشرق الأدنى الأصلية [انظر اللوحة رقم 16]، التي كان الحرفيون الإغريق قد شاهدوها وقلَّدوها، كانت تصوِّر شكلاً أنثوياً ذا خطوط أكثر استدارة وانحناءً من النسخة الإغريقية التي تميزت بالزوايا وبالأشكال الهندسية[14]. فكما في تمثال أفروديت كنيدُس، اختار الفنانُ الإغريقي تجاهُلَ أحد التفاصيل لدى اقتباسه من تصاوير الشرق الأدنى. فوضعية العارية المواجِهة شرقية، شأنها شأن تسريحة الشعر والتاج الأسطواني المرتفع (polos) الذي يرتديه التمثال الأثيني، لكن الفنان الإغريقي لم يأخذ بالتصوير المفصَّل والمتأنّي للأعضاء التناسلية، الموجود في التماثيل العاجية السورية والفينيقية. يبدو، بالتالي، أن المحرّمات الموثّقة في الفترة الكلاسيكية، كانت، على الأغلب، قد ترسّخت في القرن الثامن قبل الميلاد.
لا توجد أي تمثلات بصرية لعاريات من بلاد ما بين النهرين تتضمن إشارة إلى محرّمٍ ما يتعلق بأعضاء جسدية معينة، أو تصوّر امرأة تحاول إخفاء عريها عن الناظر. وإذا كان الخجل مرتبطاً، بطريقة ما، بالجسد الأنثوي العاري، فإنه لم يجر التعبير عن ذلك بصرياً. تؤيد هذا الرأي المروياتُ النصية، التي لم تؤخذ حتى الآن في الاعتبار، لدى تفسير تلك التمثلات. ويمكن إيضاح المواقف المماثلة في المدونات النصية والبصرية من خلال بضعة أمثلة من المدونات الأدبية العديدة التي وصلتنا من العصور القديمة.
لا تربط كلُّ الثقافات ربطاً مباشراً بين الأعضاء التناسلية والثديين من جهة والجنسانية من جهة ثانية، كما نفعل حالياً، هذا ما أثبتته كرولَيْن ووكر _ بينُم (Caroline Walker-Bynum). في الفكر القروسطي، على سبيل المثال، كانت تلك الأجزاء من الجسد تُربَط بالطعام وبالإرضاع، بالخصوبة وبالبِلى. في المقابل، نجد في النصوص القديمة في بلاد ما بين النهرين تأكيداً معادلة الجسد بالجنسانية، لا بالخصوبة التي يجري إبرازها عادة. فالنصوص الأدبية تؤكِّد إيروتيكية الجسد الأنثوي، ويمثِّل الفرج نقطة التركيز في الشعر الإيروتيكي. ولا نلمس في الأوصاف الأدبية للجماع الجنسي، الآتية من بلاد ما بين النهرين، تفضيلاً للعضو الذكري على الفرج. أضف إلى ذلك، ليس ثمة تحريم لاستعمال كلمة فرج في أيٍّ من الأجناس الأدبية المنتمية لبلاد ما بين النهرين، ولا توجد أية تعبيرات ازدرائية أو مخفّقة ترتبط بالفرج، مثلما كان عليه الأمر في بلاد الإغريق في العصر الكلاسيكي.
كما نجد أن للتأكيد على الفرج بوصفه موطن المتعة الجنسية ومنبعها، لا بوصفه مصدر الذرية، له ما يقابله في الأدب المعاصر لتلك الفترة من العصور القديمة في بلاد ما بين النهرين. فالنصوص المكتوبة باللغتين الأكادية والسومرية تشير باستمرار إلى الفرج بأنه جزء من جسد المرأة جذّاب للنظر ومغوٍ جنسياً. كما تُنسَب الصفات نفسها إلى شعر العانة الأنثوي، ويُشار دائماً إلى العري الأنثوي كمصدر للإغراء والغواية بل إنه لا يقاوَم15.
كانت اللغة الأكادية تضم خمس كلمات على الأقل للتعبير عن الأعضاء التناسلية الأنثوية، ترتبط جميعها بالجاذبية أو بالسحر، وكانت هناك إلهتان سومريتان للفرج وحده (Jacobsen 1987a: 157; Holma 1911: 95-110).
ويُعد تأكيد الإغواء الجنسي الأنثوي، وربط العري أو الجسد المزدان بالحلي، به، من الخصائص المميِّزة لثقافة ما بين النهرين. في الأدب الأكادي والأدب السومري، يُعتبَر الإغواء والإغراء أكثر الصفات المرغوبة في المرأة، شأنها شأن الفحولة بالنسبة للرجل، ونلاحظ في السطور التالية المأخوذة من تعويذة ضد الساحرات وجود تطابق بين الصِفَتَيْن:
الساحرة، هي من تجوب شوارع المدينة،
تقتحم البيوت،
تجوس الأزقة،
تتوارى في الساحة،
لا تكف عن الدوران إلى الأمام وإلى الخلف،
تقف في الشارع وتستدير عائدة على الرصيف،
تعترض سبيل المارة في الساحة،
سلبت الشاب فحولته،
سلبت الشابة الجميلة جاذبيتها18.
وفي ملحمة غلغامش، نلاحظ الارتباط الواضح بين الإغواء أو الجاذبية والجسد الأنثوي العاري، حين تتكشف مفاتن البغي بعد أن تعرّي صدرها وتباعد ساقيها.
يمكن أيضاً فَهْم الوضع المواجِه للناظر لتصاوير العري الأنثوي بوصفه إشارة إلى الإغواء الإيروتيكي لتلك الشخوص. ففي هذه الوضعية يجري تأكيد الإغراء والمُتاحية. والواقع أن استخدام هذه الوضعية قد تنامى في الفن الحديث لتصوير المرأة المغوية، كما في مشاهد إغواء القديس أنطوني، بريشة تشارلز دولمان (Charles Dollman) أو بول سيزان (Paul Cézanne)، كما تُستخدَم حالياً في المواد البورنوغرافية. يؤدي عزلُ تلك العاريات، إما كشكلٍ وحيد مواجِه للناظر على لوحة مستطيلة أو ضمن السياق السردي لمشهدٍ ما، مهمةَ تأكيد هذه المتاحية السلبية، كما يبدد المخاوف من أي خطر محتمل، وذلك عبر هيمنة منظور المشاهِد.
لا تتواجد صورة الأم المرضعة ولا صورة المرأة المغوية، إطلاقاً، في موقع سردي. وحتى عندما توضع صورة المرأة المغوية وسط مشهد سردي، كما في نقوش الأختام الأسطوانية، نجد أنها تُصَوَّر على نحو مواجِه للناظر وسط شخوصٍ أخرى، ذكور وإناث، تتجلى بوضوح وهي تتفاعل بعضها مع بعض دون إشراكها في هذا التفاعل. أحياناً قد نرى العارية أصغر حجماً، نصف حجم الشخوص المحيطة بها تقريباً، أو نراها واقفة فوق قاعدة كما لو أنها كانت تمثالاً. وهنا أيضاً ينبغي فهم تلك التصاوير الأنثوية العارية بوصفها مؤشراً أو رمزاً للجنسانية. هي مِثال إيروتيكي تستثير نظرة إيروتيكية متأملة من الذكر. الوضع المواجِه الذي تظهر به تلك التصاوير، في رسوم الأختام وفي التماثيل، إضافة إلى حركة رفع الثديين وعرضهما، أو الإشارة إليهما وإلى الأعضاء التناسلية، تسمح لها بمواجهة الناظر، وبالتالي عرض نفسها عليه مباشرة.
تظهر كل التصاوير التي تحدثنا عنها بشكلِ تماثيل صغيرة أو لوحات، أو في نقوش الأختام. أي إنها جميعاً «فنون ثانوية» مقارنةً «بالفن الرفيع»، وبالتالي يغلب أن يُصرَف عنها النظر باعتبارها لا تتمتَّع بأي أهمية فنية. لكن تلك الفنون الثانوية كانت تعكس نسخاً ضخمة بمقاييس أكبر لنفس التماثيل. وهناك تمثال من الرخام لامرأة عارية بالحجم الطبيعي لا يزال موجوداً حتى الآن. يصوّر التمثال جسد امرأة شابة، وهو يفتقر للرأس ولجزء من الذراعين ولأسفل الساقين. الثديان صغيران ومكوران لكن حالةَ التمثال لا تسمح بمعرفة ما إذا كانت الحلمتان قد صُوِّرتا على نحو نافر (...). كانت الأدبيات الخاصة بدراسة هذا التمثال تتجاهل دائماً التفصيل الأخير، بل إن منطقة العانة لم تكن تُمثَّل إطلاقًا في الرسوم التخطيطية للتمثال. يحمل التمثال كتابة مسمارية على ظهر الكتف اليمنى، ما يجعل تاريخه يعود إلى عهد الملك الآشوري أشور_بل_كالا (1073_1056 ق م)، وهذه الكتابة مهمة لأنها تبيّن الغرض من التمثال:
[ملْكيّة] قصر أشور_بل_كالا، ملك الكون، الملك الجبار، مَلِك آشور ابن تغلاث_بلاصر، (أنا) ملك [الكون]، [ملك أشور، الملك] الجبار، ابن أشور_ريسا_إيسي (أنا) (الذي كان) أيضاً ملك الكون، [الملك الجبار، ملك] أشور: صنعت تلك التماثيل في المقاطعات والمدن ومواقع الحاميات العسكرية من أجل دغدغة الأحاسيس. وكل من يمحو كتابتي ويمحو اسمي: سوف تبتليه سيبيتي المقدسة، آلهة الغرب، بلدغة أفعى.
كتابة أشور_بل_كالا تبيّن بوضوح أن المتعة الإيروتيكية غرض التمثال. يشبه هذا التمثال التصاوير التي سبق أن تحدثنا عنها من حيث وضعيته المواجِهة للناظر وتصويره للنسب الجسدية الأنثوية. كلُّ تلك التصاوير تمثّل الجسدَ الأنثوي بوصفه مثال الجنسانية وموضوع متعة لنظرة الذكر المتأملة، وتشرح الكتابةُ الموجودة على تمثال العارية بالحجم الطبيعي هذا الموقف من الشكل الأنثوي شرحاً وافياً.
توحي الأدلة النصية الآتية من بلاد ما بين النهرين، أيضاً، شأنها شأن التصاوير البصرية، بأن جسد المرأة كان مرتبطاً بالإغواء الإيروتيكي، وبأن تلك الجنسانية لم تكن تُعتبَر وظيفية من حيث الأساس، أي من أجل إنجاب الذرية، بل كانت مصدراً للمتعة الجسدية الذكورية. ليس المدلول المتضمَّن هنا هو أن مجتمع ما بين النهرين القديم كان مجتمعاً مثالياً يرى في المرأة قيمة معادِلة لقيمة الرجل، بل إن هذه الثقافة البطركية كانت ترى في الإغواء الإيروتيكي، لا في الإنجاب، الجانب الأكثر قيمة في الأنوثة. في التصاوير الأدبية والبصرية الآتية من بلاد ما بين النهرين، كان الفرج، الذي طالما أُبرِز على نحو لافت بوصفه رمزاً للتباين، هو الذي حدَّد الأنوثة بوصفها مختلفة عن الرجل، وكان بمثابة مؤشر للأنوثة. وهكذا كان تمثال الجسد الأنثوي المثالي موضوعاً للرغبة، وبما هو كذلك، أصبح موقع تَبلوُر النظرة المتأملة للذكر، جسدٌ أُسبِغَت عليه قيم جمالية يجري تقديمه لتحقيق متعة الناظر الذكر.
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد