«الغريب» ألبير كامو كاتب التمرّد والعدالة
احتفل العالم أمس بالذكرى الخمسين لرحيل ألبير كامو (7 ت٢/ نوفمبر 1913 ــــ 4 ك٢/ يناير 1960)، الكاتب الفرنسي الفريد في جيله وربّما في الأجيال السابقة واللاحقة على السواء. تلك المسيرة الراهنة والمتجددة، يصعب على كثيرين أن يتصوّروا أنّها انقطعت بغتة، على أثر حادث سير، قبل نصف قرن. أعماله ورؤاه لم تغب يوماً عن الساحة الثقافية العالمية، وروايته «الغريب» تبقى الأكثر مبيعاً في العالم، إضافةً إلى ما تراكم من أبحاث ودراسات حول أعماله. هذا الاحترام لصاحب «الطاعون»، يبدو كأنّه ثأر متأخر للأديب الذي تعرّض، في سنواته الأخيرة، لمهاجمة الأصدقاء قبل الخصوم، ووقف وحيداً في مواجهة الحملة الشرسة التي تلت فوزه بـ«نوبل» عام 1957.
عاد فيلسوف العبث إلى دائرة الجدل بعدما أعلن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي نيته نقل رفاته إلى «البانتيون» (مقبرة العظماء في فرنسا) «احتفاء بالذكرى الخمسين لوفاته». جان، ابن كامو رأى أنّ المبادرة الرئاسيّة مناورة سياسية، معترضاً على نقل الرفات لأنّ ذلك «يتناقض مع مبادئ والده». وأشارت كاترين إلى أنّ والدها لا يحبذ «صيغ التكريم الباذخة»، بينما رأى محللون أنّ دفن كامو في مقبرة العظماء، يمثّل هديّة رمزيّة لأحفاد المستوطنين الفرنسيين (الأقدام السوداء) في الجزائر. من جهته، رأى صديق كامو، الكاتب الفرنسي جان دانيال (رئيس تحرير «لو نوفيل أوبسرفاتور»)، أنّ الصخب الاحتفالي الذي سيرافق إدخاله إلى «البانتيون» يتناقض مع «بطولة الاعتدال» التي كانت حجر الزاوية في قناعات الراحل. ورأى أنّ معارضة كامو للاستبداد الشيوعي لم تعنِ أبداً أنه كان قريباً من اليمين، هو الذي قال إنّه يبقى «يسارياً رغم أنفه وأنف اليسار».
لكنّ أتراب صاحب «أسطورة سيزيف» من كبار كتّاب اليسار، وصفوه بالفيلسوف الهاوي، واعتبروا كتاباته ذات النّفَس الكلاسيكي «تعليمية». يومها، ردّ كامو: «لا أعرف لماذا يصرّ الكتّاب التقدميون على أنّ الأسلوب الكلاسيكي حكر على أدباء اليمين، فيما الكاتب اليساري محكوم عليه، لأسباب ثورية، أن يكتب بلغة الرعاع أو بالعامية». هكذا هاجمه الشيوعيون لأسباب إيديولوجية بعد إدانته انزلاقات الثورة البولشفية، وانتقاده صمت مثقفي اليسار عن جرائم الأنظمة الشيوعية...
أمّا علاقته بسارتر التي بدأت قوية، فانتهت بسجال حاد بعدما أصدر كامو «المتمرّد». لكنّ أبا الوجوديّة الحديثة، عاد وخصّ صديقه اللدود بمقال تأبيني مؤثّر عام 1960، قال فيه إنّ صاحب فلسفة العبث «مغامرة فريدة ومنفردة» وإن «إنسانيته العنيدة والطاهرة كانت تخوض معركة شرشة ضد أحداث العصر المؤلمة».
في «دفاتر ألبير كامو» (نشرتها «دار غاليمار» في ثمانية أجزاء بين 1971 و2003)، نقرأ بانوراما لمسار الكاتب المتحول منذ تجاربه الصحافية الأولى في الجزائر، حتى مقاله الأخير. الجزء الأخير من تلك الدفاتر يشمل افتتاحيات كامو في صحيفة Combat لسان حال المقاومة الفرنسية (رأس تحريرها بين 1944 و1949). هنا نقرأ إقراره بضرورة العنف في مقاومة الاحتلال النازي، ورفضه لـ«عالم يرتكز فيه كل طرف على جرائم الآخر كي يتمادى في استعمال القوة». وإذا كانت محاكمة مجرمي الحرب ضرورية لتحقيق العدالة، فهو لم يرد تحويلها إلى عملية انتقامية تجعل من الضحايا جلادين جدداً. رؤيته الرافضة لمبدأ العنف ترتكز على مفهومي الحرية والعدالة اللذين درسهما كامو في سياق المد التحرري الذي تغلب عليه الحماسة والعاطفة والنشوة الثورية. هكذا، جاهد من منطلق أخلاقي وإنساني في الدعوة إلى استشراف حلول جديدة لمعضلات العصر، لكنّه دفع الثمن غالياً في مرحلة فرنسية رازحة، آنذاك، تحت عبء الأدلجة والتعصّب.
كتب صاحب «السقطة» عام 1946: «نعيش في عالم مجرد، عالم الآلات والأفكار القطعية والأحكام المطلقة التي لا تفسح المجال للاختلاف». كلمات ما زالت تشعّ براهنيتها، ما يفسّر ربما الإقبال الدائم على أعماله، مقابل غياب مفكرين على قدر تحدّيات العصر.
لكنّ الكاتب الذي بلور نظريّة العبث وجد نفسه غارقاً في تناقض عبثي خلال حرب التحرير الجزائريّة... منذ تحقيقاته الميدانية وتسليطه الضوء على معاناة الجزائريين (راجع المقال أدناه). وفي الوقت نفسه، كان يعتقد بأن الجزائريين والفرنسيين يستطيعون العيش في وئام على الأرض نفسها، شرط توافر العدالة الاجتماعية والسياسية ضمن المبادئ الجمهورية. لكنّ قناعته الطوباوية لم تتحقّق أمام واقع استعماري بنى نفسه على قهر الجزائريين.
وتبقى هفوة كامو الأساسية عدم استيعابه للصعود الحتمي للتيار الوطني الجزائري. لقد وضع نفسه بين نارين: كان ضد القمع الفرنسي بقدر ما كان ضد عنف الثورة، ما جعل الطرفين يتفقان على نعته بالخيانة. هكذا، بقي يتعثر بينهما، غريباً ومنفياً أبدياً، رافعاً شعار الأخلاق ضد العنف مهما كان مصدره. ولعلّ الصحافي الجزائري مصطفى شلفي كان موفقاً في التقاطه تلك المفارقة حين عنون أحد مقالاته في الثمانينيات: «كامو الغريب وألبير الجزائري». ذلك أن أي قارئ عربي لأعمال كامو ينتابه إحساس بغبن محرج، فهو أمام فضاء كله جزائر حسية لاهبة مثل شمسها الكسولة وغبارها التراجيدي، لكن الشخصيات فرنسية حتى النخاع، غريبة ومنسلخة عن فضاء الرواية. هكذا سجّل كاتب ياسين أنّ رواية «الطاعون» التي تدور وقائعها في وهران لا أثر فيها بالمطلق للجزائريين، ورأى إدوارد سعيد في «الثقافة والإمبريالية» روايات كامو انعكاساً لثقافة إمبريالية تقصي الفرد الجزائري وتجتثه من ترابه.
لكنّ كامو لم ينسَ مدرسته الابتدائية الأولى في قسنطينة... حين وقف يلقي خطاب «نوبل» عام 1957، شكر معلّمه ومكتشفه فيها لويس جرمان. في خطابه، لخص قناعاته المريرة وخيبته، ورفضه الالتزام بمفهومه السارتري. أعلن أنّ الكاتب ليس في خدمة التاريخ، بل في خندق أولئك الذين يسحقهم التاريخ، وأن الكتابة ليست دفاعاً عن الإيديولوجيات التي تدّعي تحرير الإنسان، بل هي انحياز للإنسان ولو اقتضى الأمر مواجهة الإيديولوجيا، كما سلّم بهامشية الكاتب وعزلته القدرية. بالنسبة إليه، لا موقع للكاتب سوى مع المهزومين. وخلال ندوة عقدها في جامعة استوكهولم، لامه طالب جزائري على عدم مساندته للثورة الجزائرية، فسأله كامو عن سنه، واحتدّ النقاش، وعلت الأصوات، وصرخ كامو: «لو خُيِّرتُ بين العدالة وأمي، لاخترتُ أمي» (والدته كانت مقيمة في حي شعبي في الجزائر أيام الثورة). ردّ صاعق شوّش طويلاً على موقفه من المسألة الجزائرية، وجعل دو بوفوار تقول إنّ كامو حسم موقفه لمصلحة «الأقدام السوداء».
خوسيه لنزيني، الباحث المتخصص في إرث ألبير كامو، نجح أخيراً في العثور على ذاك «الشاب الجزائري» الذي واجه الكاتب في جامعة استوكهولم. إنّه سعيد كسال الثمانيني الذي ما زال مقيماً في استوكهولم. وقد اعترف بأنه في ذلك الوقت لم يكن يعرف كامو سوى بالاسم، وقد قرأه لاحقاً وحاول الاتصال به في باريس لتوضيح موقفه وتقديم الاعتذار، ليكتشف أنّه توفي قبل أيام. لم يعد أمامه حينها إلا أن يزور مقبرة بلدة لورماران (جنوب فرنسا)، حيث يرقد جثمان الكاتب بين أحضان طبيعة متوسطية هادئة، تشبه طبيعة موطنه الأصلي.
في رسالة نشرها ميشال أونفري في صحيفة «لوموند» رداً على مبادرة نقل رفات كامو، خاطب الفيلسوف الفرنسي ساركوزي بنبرة تهكميّة، مشيراً إلى أنّه لو كان كامو على قيد الحياة، لكان من أشدّ معارضيه، يقف في خندق الدفاع عن المهاجرين والمهمّشين، لا إلى جانب سياسته اليمينية ذات الميول العنصرية والليبرالية.
عبد الإله الصالحي
حتى ثوراتي كلّها أضيئت بالنور. وهذا ما أستطيع أن أقوله من دون غش، من أجل الخير للجميع، ومن أجل أن تسمو حياة كل الناس في النور. ربّما لم يكن قلبي مهيّأً لهذا النوع من الحب، غير أن الظروف ساعدتني. ولكي أُصلح لامبالاة طبيعية، وُضعت في منتصف المسافة بين البؤس والشمس. الفقر لا يمنع من الاعتقاد بأن كل شيء على ما يرام تحت الشمس، وفي التاريخ. وقد علمتني الشمس أن التاريخ ليس كل شيء. نعم لتغيير الحياة، لكن لا لتغيير العالم الذي جعلت منه آلهتي (ألبير كامو)
«الرجل الأول» عن رواية لم تكتمل
حين توفي ألبير كامو في حادث سيارة عبثي وهو في طريقه إلى باريس، بصحبة ناشره غاستون غاليمار، في 4 كانون الثاني (يناير) 1960، كان في السابعة والأربعين. طيلة العقود الخمسة التي مرت على رحيله، بقيت رواياته تباع بملايين النسخ، ومسرحياته تعرض على خشبات العالم. أمّا كتاباته المناهضة للعنف الثوري، فكانت توزع سرياً في عواصم وجامعات أوروبا الشرقية خلال الحقبة السوفياتية. في هذا السياق، كتب جان دانيال (مؤسس «نوفيل أوبسرفاتور») مرّةً يسأل: «لماذا كان مثقفو الاتحاد السوفياتي يفضلون كامو على تعاليم ريمون آرون المناهضة للماركسية؟». يجيب دانيال: «لأن كامو عرف البؤس، وناصر المقاومة ضد النازية، وكتب عن العنف والشر. ثم إن مثقفي البلدان الشرقية كانوا متمردين، وكانوا يخشون الثورة، فيما كان تقديس الثورة والتاريخ في قلب مشاغل كامو وهمومه الفكرية والفلسفية. إن هذا الرجل الذي كان يفكر مثل مونتاني، ويكتب مثل باسكال، ويعيش شك العصر الحديث، قدم لنا احتمال تمرد مقبول ومعقول». في ذلك الحادث الأليم، وُجدت مع الأديب الشاب مخطوطة رواية بعنوان «الرجل الأول»، تعبق بملامح من سيرته الذاتية. ولد صاحب «كاليغولا» في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1913 في الطارف (عُرفت خلال الاحتلال الفرنسي بمندوفي) القريبة من الحدود الجزائرية التونسية، لأمّ من أصول إسبانية، شبه بكماء وأميّة. لهذه الوالدة، أهدى «الرجل الأول» وكتب: «إليك أنت التي لن تستطيع أبداً قراءة هذا الكتاب». أما والده لوسيان كامو فقد قتل في بداية الحرب العالميّة الأولى، جنديّاً في الجيش الفرنسي. في الفصل الأول من الرواية التي صدرت عن «دار غاليمار» عام 1994، غير مكتملة كما تركها ـــــ بجهد ابنته كاترين ـــــ يروي كامو وصول والده إلى الجزائر، وسفره إلى الطارف في عربة قديمة مصحوباً مع زوجته الحامل وعربي استقبله في مدينة عنابة. عند وصولهم إلى القرية، شعرت زوجته بأوجاع المخاض، فهرع بحثاً عن طبيب. في تلك الليلة، ولد جاك كورموري ـــــ صنو كامو الروائيّ ـــــ الذي ينتقل مع أمّه بعد وفاة والده للعيش مع جدته في أحد أحياء العاصمة الجزائريّة الشعبيّة.
يروي كامو أيضاً زيارة الابن ضريح والده في مقبرة «سان بريوك» في شمال فرنسا، حيث ووري الأب في الثرى قبل 40 عاماً. في ظهيرة يوم ربيعي، يصل إلى هناك، لينتبه إلى أنّ والده في الرواية هنري كورموري، مات في سن أصغر من سنّه الآن. عندها، تغمر قلبه موجة حنان وشفقة تجاه ذلك الجندي الذي قتل في ربيع العمر، خلال حرب لم يكن يفقه أسبابها. في تلك اللحظة، يتعطل في ذهنه التسلسل الزمني للأحداث، ويضيع في دوامة السنوات. يتأمل مذهولاً وحزيناً تلك المقبرة المليئة بجثث جنود قضوا في ريعان الشباب، فيما بدأ الشيب يغزو رؤوس أبنائهم الآن. يكتب: «لم يعد قلبي الآن إلا ذلك القلب المتوجّس الشره للحياة والمتمرد على النظام القاتل للعالم».
في «الرجل الأول» يحكي كامو أيضاً طفولته المعذبة، وألعابه مع أطفال الحي، وجدّته القاسية التي كانت تعنّفه حين يشاكس. يحكي ارتياده للمدرسة الثانوية في «باب الواد» عام 1924، وعشقه للبحر الذي خصّه بنصوص رائعة في كتابه «أعراس»، وتردّده على مكتبة خاله الجزار. في تلك المكتبة الغنيّة، يقع على «قوت الأرض» لأندريه جيد، ويتأثر بشاعرية صاحبها ونفَسه الغنائي البديع.
خلال شبابه، أصيب كامو بالسل، ما منعه من مواصلة هوايته في كرة القدم، ولم يمنعه من مواصلة تحصيله برعاية جان غرونييه، أستاذه في مادة الفلسفة. هكذا، كتب نصوصه الأولى التي تضمّنت أفكاراً فلسفية عميقة طوّرها في إنجازاته اللاحقة، إضافةً إلى بعض مسرحياته. ثمّ عمل في صحيفة Alger Républicain قبل أن يستقرّ أواخر الثلاثينيات في باريس، ويكتب خلال سنوات الحرب العالميّة الثانية أعمالاً صنعت شهرته، من رواية «الغريب» إلى مسرحيّة «كاليغولا» وبحثه الفلسفي المرجعي «أسطورة سيزيف»، إضافةً إلى انضمامه إلى صفوف المقاومة ضدّ النازيّة، وكتابته «رسالة إلى صديق ألماني».
خلال الأربعينيات، تكرّس كامو كأحد أشهر الأدباء الفرنسيين على المستوى العالمي، وبقي كذلك رغم وفاته المبكرة. حتّى ذلك الحين، كانت كلّ ثوراته قد «أضيئت بالنور»، كما كتب هو بنفسه. أما الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري فيقول عن صاحب «الغريب»: «لقد انتقد كامو بحدّة الرأسمالية وانعدام الإنسانية في سياسات اليمين كما في سياسات اليسار، وقال لنا إنّ العدالة من دون حرية تقود إلى الديكتاتورية، والحرية من دون عدالة تؤدي إلى قانون الغاب».
حسّونة المصباحي
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد