«بي بي سي» في زمن التقشف: وداعاً للمنافسة
تواجه «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي)، مثل كثير غيرها من وسائل الإعلام، أزمة مالية خانقة تفرض عليها تسريح موظفين وتقليص الإنفاق وإلغاء برامج وربما إقفال أقسام بأكملها. فكيف ستفعل ذلك؟
بعد تسعة شهور من النقاشات، خرج المدير العام لـ «بي بي سي» مارك تومسون ليعلن قبل أسابيع، «خطة تقشف» ستؤدي إلى تسريح ألفي موظف في إطار خفض سنوي في الموازنة بقيمة 700 مليون جنيه إسترليني، على أن يستمر هذا الخفض حتى عامي 2016 و2017. وتُطلق المؤسسة الإعلامية البريطانية العريقة اسم «تقديم القيمة أولاً» على خطة التقشف هذه، في إشارة، كما يبدو، إلى أن عمادها يقوم على تعزيز البرامج «القيّمة» أو الناجحة في مقابل التخلي عن -أو تقليص موازنات- البرامج الضعيفة. لكن «بي بي سي» تجنّبت اللجوء إلى إغلاق محطات إذاعية أو تلفزيونية في شكل كامل، وهو أمر كان يمكن أن يؤدي إلى «مذبحة» في حق مئات الموظفين.
وكما هو معروف، جاءت خطة التقشف بعد «تسوية» بين الحكومة البريطانية و «بي بي سي» في نهاية العام الماضي، نصّت على إبقاء فاتورة مشاهدة البث التلفزيوني (لايسانس في) والمفروضة على كل منزل في بريطانيا بقيمة 145.50 جنيهاً إسترلينياً في السنة، وهو المبلغ الذي تموّل به هيئة الإذاعة البريطانية نفسها كي تبقى مستقلة عن الأهواء الحكومية أو التجارية (لا تبث المحطة إعلانات تجارية في بريطانيا). ولكن في مقابل حصول «بي بي سي» على هذا المبلغ من كل بيت كان عليها أن تتحمل نفقات الخدمة العالمية في المحطة (وورلد سرفيس) والذي كان يؤمن في السابق من موازنة وزارة الخارجية. وجاء قبول المحطة تحمّل نفقات الخدمة العالمية (تبث بالإنكليزية وبـ 27 لغة عالمية) على رغم الانتقادات التي يمكن أن يوجهها دافعو الضرائب في بريطانيا كونهم باتوا يموّلون بثاً إذاعياً لا يستفيدون منه ولا يعرفون أصلاً لغته، إذ إنه موجّه إلى شعوب مختلفة في أنحاء الأرض.
وواقع الأمر أن الخدمة العالمية في «بي بي سي» لا تشكّل عبئاً كبيراً على موازنتها، فمعظم الموازنة (66 في المئة، أو ما يوازي بليونين و231 مليون جنيه سنوياً) يذهب على باقة من المحطات التلفزيونية (بي بي سي الأولى والثانية والثالثة والرابعة وقناة الأخبار وقناة البث البرلماني وقناتان للأطفال و»بي بي سي أتش دي»)، في حين تنال 16 قناة بث إذاعي 17 في المئة من الموازنة أي ما قيمته 604 ملايين جنيه استرليني سنوياً. أما موقع «بي بي سي» الالكتروني وموقع «آي بلاير» (يعيد بث البرامج الأرضية كي يتابعها من فاته برنامج معيّن)، فينالان 6 في المئة من الموازنة، أي نحو 200 مليون جنيه.
مقصلة الإغلاق
خطة التقشف التي أعلنتها المحطة حاولت التركيز على هذا التنوع في المحطات الإذاعية والتلفزيونية لاختيار «الناجح» منها ومساعدته أكثر على حساب «الضعيف» الذي تقلّص في شكل أكبر، لكنه نجا من «مقصلة» الإغلاق الكامل. وأبرز مثال على ذلك يتمثّل في ربط محطة «بي بي سي 3» (تركز على برامج الشباب والبرامج الكوميدية) بمحطة «بي بي سي 1» الأكثر استقطاباً للمشاهدين، وكذلك ربط «بي بي سي 4» (تعنى بالفن والدراما) بمحطة «بي بي سي 2». وشملت سياسة الدمج هذه البث الإذاعي أيضاً، إذ تحوّلت محطة «راديو 7» إلى «4 اكسترا» وربطت القناة الموسيقية السادسة بالقناة الإذاعية الثانية (راديو 2).
وهكذا يكون واضحاً أن استراتيجية التقشف ركّزت على عناصر القوة التي تملكها المحطة بهدف تعزيزها أكثر، وربط المحطات الأضعف بالمحطات الأقوى والأنجح، من دون اللجوء إلى إقفال المحطات الضعيفة كلياً.
وهذا الأمر يبدو معاكساً تماماً للاستراتيجية السابقة التي كانت تقوم على «تفريخ محطات» جديدة في عصر البث الرقمي (الديجيتال) لإرضاء أذواق مختلفة من المشاهدين والمستمعين الذين ينتمون بالطبع إلى ميول ثقافية وعرقية وجنسية عدة، وأيضاً إلى فئات عمرية مختلفة. ولكن تبيّن مع الوقت أن توسيع المحطات حتى وإن أرضى بعض فئات المجتمع إلا أنه أدى في المقابل إلى جعل صورة «بي بي سي» – أو هويتها - غير واضحة لعموم المشاهدين.
إعادة هيكلة
وتتفاوض «بي بي سي» حالياً مع ممثلي نقابات الموظفين لتحديد الذين يمكن أن يفقدوا وظائفهم بفعل خفض الانفاق. وليس واضحاً بعد أين ستقع الخسائر الأكبر في عداد الموظفين، وإن كان معروفاً أن المحطة كانت وعدت بالتخلص من 150 منصباً لكبار المديرين، وهو ما يعني خفض نسبة الإدارة مقارنة بعدد الموظفين بنسبة 20 في المئة وتوفير 25 في المئة من الموازنة الحالية للإدارة.
كما تتضمن خطة إعادة الهيكلة نقل محطة «بي بي سي 3» كلياً إلى سالفورد في شمال إنكلترا حيث تكلفة المعيشة أقل بكثير مما هي في جنوب إنكلترا أو وسطها (مثل برمنغهام حيث لهيئة الإذاعة البريطانية مقر ضخم). وسيزداد عدد الموظفين في سالفورد بنحو ألف موظف ليصير العدد الإجمالي هناك 3300 موظف. كما ستخسر «بي بي سي» مقرها المترامي الأطراف في ضاحية وايت سيتي غرب لندن، لكن لن يُمس بمبانيها الجديدة في قلب العاصمة (حيث مقر «بي بي سي» العربية ومعظم القنوات الإنكليزية الأخرى). وتنص خطة التقشف أيضاً على خفض موازنة «بي بي سي أونلاين» بنسبة 25 في المئة، وتقليص موازنة شراء حقوق بث المباريات الرياضية بنسبة 15 في المئة.
لكن بعض المعلقين يقول إن مشكلة «بي بي سي» لا تكمن فقط في إعادة هيكلة المحطات بل في قضية الحفاظ على «الأداء الجيد» للبرامج في ظل عصر النفقات، فالمحطة التي وعدت بأن تقلّص 700 مليون جنيه استرليني من موازنتها في السنة (حتى العام 2017)، ستجد نفسها أمام معضلة تأمين موازنات لانتاج البرامج الجديدة التي تستقطب المشاهدين. وإذا كان من المتوقع أن تفقد برامج كثيرة جزءاً كبيراً من الأموال التي كانت مخصصة لها في السابق، فإن برامج أخرى بالغة الشهرة ستحصل على زيادة في الموازنة، مثل برنامج «بانوراما» الذائع الصيت.
ومن بين الاقتراحات المطروحة لخفض الانفاق الاستعانة بمراسلي المحطات المختلفة للمشاركة في تقديم تقارير عبر أكثر من اثير. فسيطلب مثلاً من مراسلي برامج «توداي» و «وورلد آت وان» و «بي أم» و «وورلد تونايت» و «نيوز نايت» أن يشاركوا في تقديم تقاريرهم لكل هذه البرامج بعدما كان لكل واحد منها فريق خاص من المراسلين. وهذا الأمر فيه فائدة بالطبع لأنه يوفّر إعداد تقرير مختلف عن الموضوع ذاته لأكثر من مراسل وعبر أكثر من محطة. لكن عيبه الأساسي يتعلق في أنه يمكن أن «يقتل المنافسة» اذ إن كل مراسل حالياً يسعى وراء قصة ينفرد بها لبرنامجه، ولكن في غياب المنافسة، فإنه لن يجد دافعاً إلى ذلك.
رواتب خيالية لـ «المواهب»
وكانت الـ «بي بي سي» كشفت، بعد ضغط شعبي كبير في وقت سابق هذه السنة، أن 19 من «نجومها» في التلفزيون والإذاعة يتلقون راتباً سنوياً يتجاوز 500 ألف جنيه استرليني. كما أقرت بأنها دفعت أكثر من 14 مليون جنيه لعدد من الموظفين «الموهوبين» الذين يتلقى الواحد منهم راتباً يتجاوز مليون جنيه استرليني في السنة. لكن غالبية من يُطلق عليهم «المواهب» في «بي بي سي» يتلقون في الواقع راتباً سنوياً لا يتجاوز 50 ألف جنيه (عددهم الإجمالي 50029 موظفاً، وكثير منهم لا يعمل وفق عقد عمل دائم بل يشارك في برنامج معيّن وينتهي عمله بانتهاء البرنامج).
وستنص خطط التقشف على اللجوء إلى البرامج المكررة بهدف التوفير، إذ ستزداد نسبة إعادة البرامج في «بي بي سي 1» و «راديو 4» بنسبة 1 في المئة فقط، في حين ستكون كل برامج «بي بي سي 2» خلال فترات النهار عبارة عن إعادات، باستثناء فترتي الظهيرة والمساء.
رانيا كرم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد