«بيتر كامنتسند» لهرمان هسه.. مثل سيرة ذاتية
لم يكن هرمان هسه حين أهّل نفسه للدخول إلى عالم الأدب يحلم أن يكون أول فائز بجائزة نوبل للآداب في العام التالي لانتهاء الحرب العالمية الثانية، وأن تكون هذه الجائزة الرفيعة عن منجز روائي كبير أخذ في التراكم عبر سنوات طويلة، بدءاً من تاريخ صدور أول أعماله الروائية «بيتر كامنتسند» عام 1904، وحتى وفاته في الخامسة والثمانين من عمره عام 1962. أعد هسه نفسه في البداية لأن يكون شاعراً، وكان أول أعماله عام 1899 - وهو في الثانية والعشرين من عمره - ديوان شعر بعنوان «أغنيات رومانسية»، وتلته أعمال أخرى لم يلتفت إليها أحد حتى صدرت «بيتر كامنتسند» التي لفتت أنظار النقاد والمهتمين بالأدب إليه، ليبدأ مسيرة طويلة بلغ منجزه خلالها ما يزيد عن مئتي كتاب، تنوعت ما بين النقد والشعر والرواية التي غلبت على شهرته، حتى دخل في زمرة أهم كتاب القرن العشرين بجملة من الأعمال المتوّجة برائعته «لعبة الكريات الزجاجية» التي كتبها إبان سنوات الحرب العالمية، والتي امتزجت فيها الرؤية الشعرية والفلسفية بالبناء اللغوي السردي الشديد التعقيد.
في «بيتر كامنتسند» التي أعادت سلسلة الجوائز في الهيئة المصرية العامة للكتاب إصدارها أخيراً بترجمة مصطفى ماهر ومقدمته، نجد بذور مشروع هسه واضحة من دون تأكيد أي منها. فالرواية مزيج بين الرؤية الشعرية الرومانسية والسرد الذاتي الأوتوبيوغرافي والطرح الفلسفي الصوفي الباحث عن أصل الوجود وتعدد وجوه الواجد، والإطار الخارجي للنص يقوم على حكي سيرة شاب لا يمكن وصفه بالمتمرد بقدر انعدام القدرات المؤهلة لتفوقه، سواء الدراسي أو الاجتماعي، ومن جاء فشله في استكمال تعليمه في شكل منتظم بالموازاة مع فشله في إقامة علاقة الحب الوحيدة في حياته، فضلاً عن فشله في التواصل الاجتماعي الدائم مع الآخرين، لنجد أنفسنا أمام حياة مملوءة بالترحال والقلق والفقد... ولعل المشتركات الأساسية بين النص الروائي والسيرة الذاتية أكثر وضوحاً في العمل منها عن العلاقة بينها وبين أحلامه ككاتب في مستهل حياته وتوقعاته لما ينتظره من مستقبل، إذ إن الرواية التي لعبت على مزج السيرة الذاتية بالتخيل الروائي تنتهي بحيرة الراوي ما بين نشر مخطوط عمله الأول، أو ما سماه «مشروع حياته»، وبين الاستقرار في قريته ليكون صاحب حانة فيها... ولعل هذه الثلاثية ما بين الواقع والخيال والحلم هي ما جعلته يقدم طرحاً روائياً جديداً في ذلك الوقت، حيث انتقد نفسه وسخر من واقعه وقدم في النصف الأول من العمل طرحاً أشبه بدون كيخوته الذي يكتب عن نفسه، لكنه ما لبث أن أفرد في النصف الثاني مساحات متخيلة غلبت عليها الرؤية الفلسفية الوجودية عن الموت والحياة والحب والتواصل البشري، وهي رؤية عاطفية مملوءة بالتصورات الشعرية التي تركت أبعادها على اللغة ذات الجوانب الجمالية البلاغية.
في هذه الرواية نستطيع أن نتوقف أمام عدد من ملامح الكتابة الروائية التي ينتجها رجل نشأت فكرته عن السرد من خلال الشعر وليس القصة القصيرة، فحضور الذات قوي ومهيمن على النص، بدءاً من الكتابة بضمير الأنا وانتهاء بالمراوحة ما بين الأتوبيوغرافية والسرد المتعالي على التفاصيل، مروراً بالعناية باللغة وتكثيفها وانعدام التخطيط المسبق للنص قبل الكتابة، وكأنه هو الذي يتخلق من تلقاء ذاته كما اتفق ساعة الكتابة، ومن ثم فالبطولة الأساسية في النص جاءت لمصلحة حضور الذات وليس الشخوص أو المكان أو حتى الحكاية، بينما جاءت الوقفات الفلسفية في النص كحالة استبطان للذات المهيمنة ورصد مشاعرها تجاه العالم، وما يعانيه صاحبها من فقد وغربة وقلق، وكأننا أمام حالة شعرية إن لم تكن قصيدة طويلة كتبت على فترات متباعدة، والمدهش أن أي كاتب يتطور من عمل إلى عمل، لكن هسه تطور في العمل ذاته من هيمنة الذات في النصف الأول إلى ضرورة الانتباه لأهمية وجود عناصر أخرى في تركيبة النص الروائي، فظهرت شخصيات الأب والحبيبة والصديق والمغرمة بالسارد، لكنها جميعاً جاءت كمكملات للنص وليس كعناصر فاعلة فيه، كما أن حضورها الثانوي جاء على نحو ما في التراجيديات اليونانية التي يتحدد دور الشخصيات الثانوية فيها في مدى إبرازها للمأزق القدري الذي يعانيه البطل.
في الواقع، كان والد هسه مبشراً في الهند، وحين تقاعد عاد إلى قريته وتزوج من ابنة مبشر آخر ليعيشا حياة ملتزمة إلى حد بعيد، ومن ثم أدخلا ابنهما مدرسة في أحد الأديرة، لكنه لم يحصل على درجات تؤهله للاستمرار فيها، فتم نقله إلى مدرسة علمانية لم يتحصل فيها إلا على المبادئ التي تؤهله للقراءة والتعليم الذاتي، لكنه سخر من كل هذا، فجعل والده فلاحاً سكيراً، وأخرج أمه من حساباته فجعلها تموت مبكراً، وجعل من نفسه أبله في الدراسة لكنه محب للقراءة والشعر، وفي النهاية حصل على شهادة عليا، لكنه لم يعمل بها، وبدت الرواية أشبه برحلة صوفية طويلة للبحث عن الذات في المدن الأوروبية، لينتهي به المطاف الى التفكير في الإقامة في قرية والده وفتح حانة فيها، لتصبح مشكلته الوحيدة أن هذا يعني أن رأي والده فيه هو الذي سينتصر، وأن والده سيعود إلى السكر مجدداً ضارباً بنصائح الطبيب عرض الحائط، وكأن هذا هو المبرر الوحيد الذي جعل من هسه ذلك الكاتب الفذ في الثقافة الألمانية.
صبحي موسى
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد