«مهاجر بريسبان» ومحاولة الاقتراب من العرض الناجح
أنس زرزر: ما يميز عروض التخرج التي يقدمها معهد الفنون المسرحية سنوياً عن غيرها من الأنشطة المسرحية، أنها اللقاء الأخير للطلبة قسم التمثيل مع الجمهور قبل نهاية سنوات دراستهم، ومحطتهم الأخيرة قبل انتقالهم إلى عالم العمل الاحترافي بمجال الدراما بمختلف أشكالها، والتي تحظى للأسف الدراما التلفزيونية بالنصيب الأكبر من خريجي معهدنا المسرحي! أيضاً تشكل مشاريع التخرج محطة دائمة لتقييم آلية العمل والسوية الأكاديمية التي ينتهجها الكادر التعليمي والإداري في المؤسسة الدرامية الرسمية اليتيمة في سوريا، لذلك يختلف تقييم هذه العروض عن غيرها من النتاج المسرحي السوري والذي بات شحيحاً إن لم نقل نادراً في أيامنا هذه لأسباب كثيرة لسنا في صدد مناقشتها الآن.
عن العرض
أختار الأستاذ مانويل جيجي مع طلابه مسرحية «مهاجر بريسبان» للكاتب اللبناني جورج شحادة لتقديمها على خشبة المسرح الدائري، وحاول معهم المحافظة على بنية النص الأصلي الذي يعتبر آخر ما كتبه شحادة بمجال المسرح عام 1965م، ويندرج ضمن ما يمكن تسميته الحلم الجماعي الذي حاول شحادة تكريسه في مجمل نصوصه المسرحية مقارباً بذلك أجواء مسرح العبث، لكنه دائماً يضفي على قضايا الإنسانية التي يعالجها روحيةً وشاعريةً مقترباً من البراءة الأسطورية.
تدور أحداث العرض في قرية بلفينتو التابعة لمدينة صقلية الإيطالية، حيث يستيقظ سكانها ليجدوا جثة لأحد المهاجرين العابرين قادماً من بريسبان الأسترالية، لكن ما يثير دهشتهم وريبتهم هو الثروة الكبيرة التي وجدت معه والتي حملها ليعطيها لابنه غير الشرعي بعد أن تركه منذ زمن بعيد والذي أنجبه من إحدى نساء القرية حسب ما تقول الأوراق التي وجدت في حقيبته، هنا يبدأ الصراع والحراك يدور بين السكان الراكدين والهادئين بطبعهم، والتي أصبحت حياتهم رتيبة تماماً بكل ما فيها من حب وشرف وفقر وبساطة، لكن ليست الثورة وحدها التي تقوض حياة ثلاث أسر من القرية الهادئة وتفقدهم القدرة على النوم، إنما هو الجانب السحري لدى الإنسان والذي يجعله يفكر دائماً بالغيب، ليعيش أحلام اليقظة وإن كانت على حساب شرفه وقيمه في كثير من الأحيان، لتصبح القضية التي عالجها العرض هي: الثروة مقابل الفضيلة والبراءة، أو بمعنى آخر المادة في مواجهة القيم الروحية والمثالية.
يدير العمدة والكاهن دفة النزاعات والخلافات بطريقة خفية بين الأسر الثلاث، وكل زوج بات يشك بخيانة زوجته، ويفكر بالوقت نفسه بالثروة الهائلة التي يحتفظ بها العمدة ريثما تكشف حقيقة الابن الغائب، يتخلل مشاهد الأزواج ومشاحناتهم ظهور بعض الشخصيات الأخرى التي تمثل أنماط مختلفة من البشر الذين يعيشون على هامش الحياة زادهم الوحيد هو مصائب الآخرين وكوارثهم التي تنعش حياتهم محاولين الاستفادة منها حتى يثبتوا وجودهم على الأقل، كما هو الحال مع البواب والسكرتير. بعد رحلة طويلة من العذابات والصراعات الداخلية التي عاشتها مجمل الشخصيات، ينتهي العرض بجريمة قتل خاطفة، تعلن انتصار طمع الإنسان على مبادئه وأخلاقه، عندما يقتل أحد سكان القرية البسطاء زوجته المخلصة طمعاً بالحصول على المال متذرعاً باعترافها بخيانته، لنكتشف بعدها أن المهاجر الذي خلخل نظام القرية الهادئة وتسبب بموت إنسانة بريئة، ضل طريقه ليصل إلى المكان الخاطئ بطريق الصدفة!
إعداد أم تخريب للنص؟
أول ما يواجهه المشرف على أي من مشاريع التخرج هو إيجاد نص مسرحي يستوفي جميع الشروط الفنية والأكاديمية المطلوبة، وأن يتوافق بشكل أساسي مع عدد الطلاب لإعطاء كلٍ منهم مساحة للظهور بشكل شبه متساوي فيما بينهم، لكن الذي فعله الأستاذ مانويل جيجي المشرف على مشروع دفعة التخرج الأخير هو العمل على إعداد النص الأصلي معتمداً على حذف مقاطع طويلة وإلغاء بعض الشخصيات -مثل شخصية الطفلة آنا- وإدخال شخصية أخرى هي بهلول القرية أو حارس الساحة، كذلك إلغاء بعض الأحداث وتغيير التسلسل الزمني للآخر، كما قدم الطلاب معتمداً أسلوب «الدبل كاست» ليعطى مساحة حضور متساوية تقريباً لجميع الطلاب، هذه التغييرات بالمجمل أفقدت النص/العرض الكثير من قيمته الفنية والجمالية، فالجمل المحذوفة والمشاهد الملغاة تعتبر جزءً لا يتجزأ من بناء الشخصيات التي وضعها شحادة وعلى ما أراده من حواراتها التي مهما دخلت في تفاصيل الحياة اليومية لكنها لا تفارق طبيعة الشعر والحلم الجماعي الذي رسمه في مجمل نصوصه المسرحية، محاولاً استنطاق خفايا النفس البشرية بطريقته الخاصة، هذه التعديلات والتغييرات حرمت الطلاب بالمجمل من تقديم شخصيات مسرحية ناضجة ومتكاملة من جميع النواحي، على ما يبدو أن جيجي تلاعب بالنص الأصلي ليتلاءم مع إمكاناته الفكرية والعلمية المسرحية وكأن الغاية الأساسية من مشروع التخرج هي فرصة لتقديم نفسه كمخرج بيعداً عن الإشراف على عرض طلاب التخرج الذي حاولوا جاهدين بذل قصارى جهدهم في أدائهم للتغلب على الفجوات الكبيرة التي لم يستطع مشرفهم العلمي معالجتها بطريقة منهجية صحيحة، مما أضاع فرصة حقيقية لمجموعة الطلاب المغلوب على أمرهم في تقديم ما تعلموه وجهدوا لتحصيله.
بدوره قدم الأستاذ نعمان جود قراءته السينوغرافية التي ساعدت في تجاوز الكثير من الهفوات التي أحدثها الإعداد غير الناجح للنص المسرحي، عندما خلق فضاء مسرحياً مدروساً لساحة القرية ومنازلها المحيطة، مستثمراً طبيعة المسرح الدائري ومستوياته المختلفة، من شجرة توضعت في منتصف الساحة التي شغلت المستوى الأول حيث دارت أحداث المسرحية حولها، إلى شرفتي الكاهن والعمدة اللتين كونتا المستوى الثاني والمرتفع كدلالة رمزية على ترفع السلطة الدينية والحكومية عن الأحداث الجارية ضمن بنية مجتمع القرية، وما وضعه جود جاء متناغماً مع إضاءة العرض التي صممها ماهر هربش والموسيقا التي وضعها رعد خلف وأزياء ستيلا خليل، جميع هذه العناصر ساعدت في رفع سوية العرض ومساعدة الطلاب على الولوج في العوالم والأجواء التي كتبها جورج شحادة، لتكون النتيجة عرض تخرج قارب النجاح والتميز لولا بعض الهفوات البسيطة التي يتحمل الأستاذ المشرف مانويل جيجي مسؤوليتها.
إضافة تعليق جديد