«مولاي عبدالرحمن» لديلاكروا: الألوان تصنع تاريخاً شرقياً
من يتصفح الألبوم الضخم والمزدهي بنحو مئتين وأكثر من اللوحات والرسوم التي حققها الرسام الفرنسي أوجين ديلاكروا خلال زيارته الشهيرة الى المغرب ثم بعد تلك الزيارة، متأثراً بها، سيخيَّل إليه ان الرسام الرومانسي الكبير أمضى في المغرب عشرات السنين. لكن الحقيقة هي ان ديلاكروا لم يمض في هذا البلد العربي/ الأفريقي سوى عدد قليل من الشهور، اذ إن رحلته المغربية تلك بدأت في 24 كانون الثاني (يناير) من العام 1832 لتنتهي في 5 تموز (يوليو) من العام نفسه، لكن تلك الشهور القليلة تركت لدى الرسام ألف انطباع وألف لون ولون، بل ظلت تؤثّر فيه وفي ألوانه ومواضيعه حتى نهاية حياته، ما جعله يُعتبر بالنسبة الى الباحثين والجمهور رسامَ «الاستشراق» الأول. ومن هنا، اعتُبر العام 1832 عاماً أساسياً في حياة ديلاكروا وفي مسيرته الفنية، ذلك ان هذا الرسام، الذي كان عند ذاك في قمة مجده مع أنه لم يكن تجاوز الرابعة والثلاثين من عمره، تعرّف في ذلك الحين الى الكونت دي مورناي، بناء لتوصية من الآنسة مارس، وكان هذان الأخيران من عِلْيَة القوم كما من كبار محبي الفنون في تلك الأزمان. وكان الكونت مكلفاً بمهمة ديبلوماسية لحساب الحكومة الفرنسية لدى مولاي عبدالرحمن، سلطان المغرب في ذلك الحين. وبسرعة، اتخذ دي مورناي قراره بضم ديلاكروا الى الرحلة الديبلوماسية. صحيح ان ديلاكروا لم يكن لديه يومها ما يكفي من الوقت لكي يحضّر لرحلته جيداً، ولكي يقرأ كثيراً عن المغرب. لكنه، وهو الذي كان يرسم من قبل الكثير من المواضيع الشرقية والتاريخية والأسطورية لم يبال بضيق الوقت، بل راح يحضّر بسرعة دفاتره وألوانه وأوراقه وأقلامه، وقد آلى على نفسه ان يرسم كلَّ موضوع يراه، وكلَّ لون، وبخاصة كلَّ قسط من أشعة الشمس، كما اعتاد ان يقول لأصحابه في ذلك الحين... كان يركض متلهفاً وكأنه يعرف سلفاً ان حصيلة تلك الرحلة ستكون حاسمة، ليس بالنسبة اليه وإلى فنه فقط، بل أيضاً بالنسبة الى فن الرسم في شكل عام. ويروى ان ديلاكروا بدأ يرسم ويتخيل المشاهد وهو بعد في السفينة التي كانت تقطع المتوسط متوجهة الى المغرب. وراح يمطر أصدقاءه في باريس وغيرها بعشرات الرسائل المزينة بالرسوم والتخطيطات، كما راح يحتفظ لنفسه بملاحظات مرسومة ومدوّنة... وهذه كلها سوف يستخدمها لاحقاً في تحقيق تلك اللوحات والرسوم «المغربية» التي أخرجت الفن الاستشراقي يومها من أبعاده الأكاديمية أو من اعتماده على الذاكرة، كما من استناده إلى عدد كبير من الأساطير - ولا سيما التوراتية التي كان يجري التركيز فيها على الخصوصية الشرقية -، لتدخله في صلب المشهد المحسوس والمعيوش. ومع هذا، يمكن القول ان ديلاكروا لم يحقق رسومه ولوحاته المغربية الكبيرة إلاّ لاحقاً، وهو في محترَفه الباريسي. وذلك هو حال واحدة من أشهر تلك اللوحات التي «عاد» بها من تلك الرحلة المغربية: «مولاي عبدالرحمن سلطان المغرب يخرج من قصره في مكناس محاطاً بحرّاسه».
> في الحقيقة هناك لوحات ورسوم عدة لديلاكروا تحمل العنوان ذاته والموضوع ذاته تقريباً. وما اللوحة المرفقة مع هذا الكلام سوى واحدة منها. وإذا رصدنا تاريخ رسم ثلاث من هذه اللوحات وإنجازها، على الأقل، سيدهشنا إلحاح ديلاكروا على هذا الموضوع، أو -في شكل أكثر تحديداً- على استعادة تلك الرؤية بما تحمله من أجواء ودلالات، ففي العام 1837، وبعد خمس سنوات من قضاء الرحلة، رسم ديلاكروا لوحة «قائد مغربي يزور قبيلته»... وهذه اللوحة تصوّر زعيماً مراكشياً، له على أي حال كل ملامح مولاي عبدالرحمن وعظمته، وهذا القائد الممتطي حصانه يقف في البرية ليتذوق لبناً تقدمه له القبيلة... واضح ان في هذا التقديم وفي التذوق، كما رصد ديلاكروا الأمر، نوعاً من التكريم المتبادل بين الطرفين. ولاحقاً في العام 1845 حقق ديلاكروا اللوحة الثانية، وهي تلك التي نحن في صددها هنا، وفيها السلطان عبدالرحمن على حصان أبيض وقد وصل مع حرّاسه وأعوانه الى خارج باب قصره في مكناس. ويميّز هذه اللوحة عن السابقة، ان الرسام هنا اختار لمشهده تركيباً عمودياً بعدما كان التركيب أفقياً في اللوحة السابقة، وكان واضحاً ان ذلك الاختيار انما يستجيب الى رغبة الرسام في التركيز على عظمة السلطان، فيما كانت غايته في اللوحة الأولى إظهار المشهد الطبيعي البري من حول ذلك السيّد الخطير، واحتفاء أهل القبيلة به. ولاحقاً، في العام 1862، وقبل عام واحد من وفاته، عاد ديلاكروا إلى الموضوع نفسه ليحقق عنه لوحة جديدة تجمع بين اللوحتين السابقتين. هنا حافظ الرسام على عمودية اللوحة، لكنه قلل من عدد أعيان السلطنة المحيطين بالسلطان، ليركز على الحرس وعلى الأعوان المباشرين، وكذلك جعل الحصان غامق اللون كما كان في اللوحة الأولى، ناهيك أنه جعل السلطان يقوم بيده اليمنى، بالحركة نفسها التي كان يقوم بها لتذوّق اللبن في اللوحة الأولى، وقد تغير توجه نظره. ويقيناً ان هذا المشهد برمته، بما في ذلك ألوانه وخطوطه وتركيبه الهندسي، إنما استقاه ديلاكروا من ذاكرته، التي بقيت حية في علاقتها مع المغرب وشمسها، الى درجة تذكُّر كمٍّ مدهش من التفاصيل الصغيرة التي من الواضح أنها بقيت حية لا تريد ان تموت او حتى ان تبتعد عن تلك الذاكرة قيد أنملة، كما بقيت حية في ذهنه عظمة السلطان، التي أراد ان يعبِّر عنها أولاً وأخيراً في تلك اللوحات.
> ان اللافت في هذا كله، ان هذه اللوحة كان الهدف منها في الأساس ان تحيي ذكرى اللقاء الديبلوماسي الذي جرى بين الكونت مبعوث الحكومة الفرنسية وبين السلطان المراكشي، غير ان ديلاكروا الذي لم يرغب كما يبدو في ان يخلّد مشهداً كان يعرف أنه عابر، وأنه سوف يُنسى بسرعة، وآثر ان يستعيض عن ذلك الهدف بعمل يرسم صورة لعظمة السلطان الذي تهتم به باريس كل ذلك الاهتمام. وكان همه ايضاً ان يعطي المشهد كله طابعاً استعراضياً وطبيعياً عبر تصويره في الهواء الطلق والتركيز على ألوان الطبيعة الحية، عبر نوع من التمازج بين ألوان الطبيعة وألوان الديكور وثياب الشخصيات. ويمكننا ان نقول هنا إن الفنان حقق من النجاح في هذا الإنجاز ما جعل واحداً من كبار نقاد عصره يقول: «إن احداً لن يتهم، هذه المرة، رسامَ لوحة «مشاهد من مجـازر شايو»، بأنه التف على شخصياته وبالغ في رسم حركاتها وتصرفاتها. ان الاشخاص عنده هذه المرة هادئون يتسمون بنبـل كبير... نبل يلائم الشخصيات الشرقية الهادئة. لقد وصل ديلاكروا هنا، في هذه اللوحة المدهشة والواقعية، على رغم زينته المفرطة وألوانها التي تبدو طالعة من مشاهد الف ليلة وليلة، الى ذروة فنه السامية... وصل الى عظمة البساطة وروعتها».
> وطبعاً لم تكن هذه اللوحة، ورفيقتاها حول الموضوع نفسه، كلَّ ما رسمه أوجين ديلاكروا من لوحات وُصفت بالاستشراقية، انطلاقاً من رحلته المغربية تلك... فإلى جانب رسمه السلطان والمشاهد الرسمية الفخمة، نراه يدخل مرة بيوت الناس ليرسم عرساً يهودياً، ثم يمتشق أقلامه وألوانه ليرسم إسكتشات لنساء من طنجة وغيرها. ثم يرصد رحلات الصيد، ويعرج على نساء الجزائر (في لوحة رائعة سوف يقتبسها بيكاسو في عمل لا يقل عنها روعة)...
في اختصار، أعطى ديلاكروا فن الاستشراق من خلال تلك الرحلة نكهة جديدة... وأعاد تكوينه من جديد، كما أنه أضفى على فنه هو نفسه أبعاداً ما كان ليحلم بها. وديلاكروا (1798-1863) كان على أي حال مهيَّأً منذ بداياته لمثل ذلك النوع من تلقي المشهد الراقي والتعبير عنه، ذلك ان عمله كله تقريباً، ومنذ البداية، حُقق تحت راية المشاهد الرومانسية والجماعية التي تمزج بين الخيال والثقافة، وبين التاريخ وتصوّر التاريخ. من هنا، كان واحداً من الذين مهدوا لمجيء الفنون الأكثر ذاتية في فرنسا من بعده.
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد