«وصيتي» لأمين الريحاني: الكلمات الأخيرة لرجل حكيم

16-08-2016

«وصيتي» لأمين الريحاني: الكلمات الأخيرة لرجل حكيم

في سنوات الثمانين من القرن الفائت، وفي وقت كان الأديب أمين ألبرت الريحاني يشرف على إصدار طبعة جديدة متكاملة وأنيقة من «الأعمال الكاملة» لعمه الأديب اللبناني الكبير أمين الريحاني ويعمل على تصحيح العديد من الأخطاء و «الافتراءات» في حق صاحب «ملوك العرب» و «قلب لبنان» و «قلب العراق»، أصدر ذلك الأديب الشاب حينها، كتاباً صغير الحجم فيه نصّ للريحاني الكبير لم يكن معروفاً من قبل، وعلى الأقل بالنسبة الى عموم القراء. ولعل السبب يمكن تبيّنه في شكل منطقي. فالنص الصغير كان يتضمن ما سماه أمين الريحاني نفسه «وصيتي» بمعنى أنه كتبه لخاصته في الأيام الأخيرة من حياته، كي يُقرأ بعد موته - كما شأن كل وصية -، ومن هنا لم يتضمنه أيّ من الكتب التي نشرها الريحاني نفسه في حياته، ما احتاج الى إعادة طباعة الأعمال الكاملة في الثمانينات كي يعاد الى الحياة من جديد، كاشفاً عن وجه يمكننا أن نقول اليوم أنه الوجه الحقيقي للمفكر والأديب اللبناني الكبير، بمعنى أنه الوجه الذي اختار أن ينهي حياته به، ما يلغي منطقياً كل الوجوه الأخرى التي لطالما رُسمت له. بخاصة أن «الوصية الريحانية» لم تأت ذاتية الطابع كما كان يمكن للمهتم أن يتوقّع، بل إنسانية عربية شاملة تسفر أخيراً عن المواقف السياسية والفكرية وحتى الأيديولوجية، لكاتب كان كثيراً ما أثار علامات الاستفهام بل افتُريَ عليه في لحظات من حياته، الى درجة أن قامت أحياناً تظاهرات في مدن عربية يزورها تتهمه بـ «العمالة» للغرب.

 إذاً في شكل من الأشكال، يعيد «وصيتي» الاعتبار لأمين الريحاني مظهراً إياه وجهاً وحدوياً عربياً تقدمياً وإنسانياً. ولنتفحص الأمر هنا ميدانياً، بالنظر الى أن «وصيتي» نصّ يقول ذاته دونما حاجة الى أي تفسير، ويقول ما كان يفكر الريحاني به ويؤمن بأنه الشيء الوحيد الذي يمكنه تقديمه الى مواطنيه في لحظات الصدق الأخيرة قبل الرحيل. ومن هنا نكتفي بنقل شذرات من الوصية التي «تتوزع»، كما يقول أمين ألبرت الريحاني، «الى مقدمة وعشرين بنداً» وهي تتميز من الناحية اللغوية «بإيجاز بليغ، إن في المقدمة أم في معظم البنود لأن الموضوع يفترض مثل هذا الإيجاز وإطار الوصية يفترضه أيضاً».

 يقول أمين الريحاني في مقدمة وصيته هذه: «... جئت في هذه الوصية أوصي بها لأهلي وأصحابي وإخواني في الإنسانية، البيض والصفر والسود على السواء، شرقاً وغرباً: لا تتنازعوها، رحمكم الله. إنها لتكفي الجميع. أولاً، إن حق الشعوب في تقرير مصيرها لحق مقدس، فأوصيكم بالجهاد في سبيله أينما كان.

 ثانياً، إن الأمة الصغيرة، وهي على حق، لأعظم من الأمة الكبيرة وهي على باطل (...). ثالثاً، إن الأمة القوية الحرة لا تستحق قوتها وحريتها ما زال في العالم أمم مستضعفة مقيدة. رابعاً، لا تبلغ الإنسانية أعلى درجات الرقي والعطف ما زال نصفها حراً ونصفها مستعبداً. واعلموا أن الاستعباد الاقتصادي في البلدان المستقلة الغنية هو شر من الاستعبادين السياسي والاقتصادي في البلدان التي لا تزال تحت سيطرة الأجانب. أوصيكم بمحاربة الاستعباد أينما كان وكيفما كان. خامساً، إن الانتداب كما حدده ودرو ولسون (...) هو معقول مقبول. ولكنه عملياً مكروه مرذول. إنه أخبث من الاستعمار فأوصيكم بجهاده حتى ينتهي. سادساً، إن الجهاد الروحي لأشرف وأنفع من الجهاد المادي. إن المقاومة السلبية السلمية، خصوصاً عند الشعوب المستضعفة الفقيرة، هي خير من غيرها وأولى. أوصيكم بأن تجاهدوا الحكومات المنتدبة والحكومات الظالمة جمعاء، جهاداً روحياً سلمياً. شقوا عصا الطاعة، أعلنوا المقاطعة والإضراب، لا تدفعوا الضرائب والرسومات، رحبوا بالسجون وبالقصاص في سبيل الحق والحرية. سابعاً، إن خير حب الوطن الحب الذي يشمل الأوطان الأخرى (...). ثامناً، إن الوحدة العربية المؤسَّسة على القومية لا على الدين هي وحدة مقدسة، فأوصيكم بها. واعلموا أن لا خلاص للأقليات من ربقة الأجانب، أو في الأقل من التدخل الأجنبي الا باتحادهم والعرب، بل بامتزاجهم والأكثريات امتزاجاً عقلياً أدبياً روحياً، فتصبح البلاد ولا أكثريات فيها ولا أقليات. واعلموا كذلك أن لا مستقبل مجيداً للعرب، ولا وحدة عزيزة شاملة، بغير الحكم المدني الديموقراطي القائم على العدل والمساواة بالحقوق والواجبات (...). تاسعاً، أوصيكم وأسألكم أن توصوا غيركم بمقاومة الحروب، وبشجب أباطيل الشجاعة والتضحية من أجل الوطن. واعلموا أن البطل الحقيقي، بطل اليوم والمستقبل هو من يجرؤ على أن يقول: لا أحارب ولا أحمل السلاح للحرب (...).

 عاشراً، أوصيكم بأن توصوا شقيقاتكم ونساءكم وأمهاتكم بالبطولة الجديدة، بطولة العقل والروح، البطولة الأدبية المفعمة حباً للإنسانية. فينشأ إخوانهن وأولادهن على مبدأ الإخاء البشري فيحترمون حرية الفكر والوجدان، ويأبون أن يطيعوا أعداءها، أو يرضخوا لأحكامهم (...). حادي عشر، أوصيكم بفك القيود وبإطلاق النفس والعقل من الأقفاص الخشبية والنحاسية والذهبية (...) فإن لسُلّم الوجود درجات ثلاثاً، هي الطبيعة والإنسانية والإله الأعظم (...). ثاني عشر، إنني مؤمن بالله، وبالعلم الكشاف لأسرار الوجود (...). ثالث عشر، أوصيكم بتعهد كل نور جديد (...). رابع عشر، إن أنوار العالم القديمة على وشك الانطفاء كلها، فتيقظوا وراقبوا المصابيح الجديدة وسيروا في مقدمة المستنيرين بأنوارها. خامس عشر، إنني من الموحدين، وإن في مرآة توحيدي لتنعكس وجوه الأنبياء والرسل أجمعين (...). سادس عشر، أوصيكم إذن بالتوحيد. فالدين نظرياً هو الصلة الحية النيّرة بين الإنسان وربه الأوحد. والدين روحياً هو الاستمتاع بما يكشفه الاجتهاد دون وساطة البتة (...). والدين عملياً هو أولاً إدراك الحقيقة الإلهية في كل من علّم الناس صفحة بل حرفاً في كتاب الحب والبر والتقوى (...).

 هذا إذاً، بعض ما كان يشغل فكر أمين الريحاني في أيامه الأخيرة. ولعل قراءتنا كتبه مباشرة، في معزل عن التعليقات والتفسيرات و «الافتراءات» يكفينا لكي ندرك أن هذا ما كان الريحاني يفكر فيه ويسعى إليه عملياً طوال تلك السنوات الطويلة من حياته التي أمضاها باحثاً ومناضلاً ورحالة و «وسيطاً» بين العرب من ناحية وبين العرب والعالم من ناحية ثانية. ومع هذا، واضح أن هذه الشذرات تبدو الأكثر إفصاحاً عن مكنونات شخصيته، وقد تكون مؤشراً عملياً لا يمكن مناقشته حول خطل العديد من الأباطيل التي روّجت من قبل أوساط «تضررت» من الريحاني، ومفادها أن الرجل ملحد وكافر ويستحق الحرمان. فما يقوله الريحاني هنا (ونسمح لأنفسنا باعتباره كلاماً منه نهائياً)، يقدمه لنا مؤمناً بالله وبوحدة الوجود، ووحدة الشرائع السماوية، محباً في الوقت نفسه للإنسان، للشعب العامل الذي من أجله «كنت، كما يقول في الفقرة 17 من الوصية، حرباً على الرؤساء الدينيين والمدنيين الذين يأكلون خبزهم بعرق غيرهم (...) ولا أزال في ما تركت من آثار أدبية وإصلاحية حرباً على هؤلاء، وخصوصاً في لبنان وسائر الأقطار العربية. حرباً الى أن تستقيم وتعزز مصالح الشعب التي يعبثون بها ويسخرونها دوماً لمصالحهم».

كان أمين الريحاني (1876-1940) عندما وضع وصيته ملء الأبصار والأسماع في العالم العربي هو الذي كانت ترجمته المبكرة لكتاب المعري «لزوم ما لا يلزم» قد أسبغت عليه شهرة ما، في الولايات المتحدة حيث كان يعيش في ذلك الحين بعد أن كان قصدها وهو في الثانية عشرة من عمره، فإن «نبذة في الثورة الفرنسية»، الذي نشره أولاً في مطبعة الهدى في نيويورك، سيضفي على اسمه شهرة في العالم العربي بعد أن كتبت عنه، منوهة، مجلة «المقتطف». ومنذ ذلك الحين لم يتوقف أمين الريحاني عن الكتابة، وفي أجناس أدبية وفكرية وتاريخية عدة، كما لم يتوقف عن التجوال متنقلاً خصوصاً في أرجاء العالم العربي، واضعاً عنه وعن أحواله ولا سيما عن تاريخه وملوكه، وما يحمّله لهؤلاء الملوك من آمال، كتباً كان قراؤه ولا يزالون يتلقفونها باهتمام كبير. ومن أبرز كتب الريحاني «ملوك العرب»، «شذرات من عهد الصبا»، «الريحانيات»، «قلب لبنان»، «قلب العراق»، «النكبات» «تاريخ نجد الحديث»، «فيصل الأول»، «التطرف والإصلاح»، «هتاف الأودية» و «أنتم الشعراء»....

إبراهيم العريس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...