أحداث ينتجها الاحتقان الطائفي
عادت خلال الأسابيع القليلة الماضية أحداث العنف الطائفي لتتصدر المشهد السياسي المصري من جديد، ففي حي الزيتون في القاهرة لقي ثلاثة من تجار الذهب الأقباط حتفهم بعد أن اقتحم مسلحون مجهولون متجرهم بهدف السطو وأطلقوا عليهم الرصاص وفروا.
وبعدها بأيام شهدت محافظة المنيا صداماً آخر بين مسلمين وأقباط على خلفية نزاع على ملكية قطعة أرض في جوار دير أبو فانا كان الأقباط يعتزمون اقامة سور حولها، ما أدى الى اشتباكات مسلحة راح ضحيتها مسلم وأصيب عدد من الرهبان بجروح.
الحدثان وغيرهما نتيجة تفشي العنف وعدم احترام القانون، وهو ما يعني موت الجسد السياسي المصري باعتبار أن الجسد السياسي لأي أمة يستمد قوته بحسب جان جاك روسو في كتابه «العقد الاجتماعي» من احترام مبدأ سيادة القانون، فإذا كان مبدأ الحياة السياسية في السلطة السيادية فإن السلطة التشريعية هي قلب الدولة بينما السلطة التنفيذية هي عقلها. ولكن، إذا ضعفت سطوة القانون مع تقادم الزمن، فإن ذلك دليل على غياب السلطة التشريعية وأن الحياة فارقت الجسد السياسي للدولة.
وتأكيد الدولة المصرية على أن الأحداث ليست طائفية لا يعني عدم وجود احتقان طائفي بين المسلمين والأقباط، أو أن الحياة السياسية المصرية على ما يرام، خصوصاً أن تلك الاحداث تتواكب مع اعتزام الدولة استصدار قوانين استثنائية جديدة مكبلة للحريات أو تمديد القوانين القائمة. فأحداث الاسكندرية قبل حوالى سنتين عندما هاجم أحد المختلين عقلياً بحسب الرواية الرسمية احدى الكنائس وقتل بسكين ثلاثة من المصلين داخلها، واكبت إعلان الدولة اعتزامها إصدار قانون لمكافحة الارهاب. كما أن الأحداث الأخيرة واكبت كذلك تمديد الدولة العمل بقانون الطوارئ لمدة سنتين جديدتين، وهو القانون الاستثنائي المعمول به منذ اغتيال الرئيس السادات.
هناك خطان متوازيان يتحركان معاً. كل هجمة رسمية ضد الحريات السياسية بواسطة قوانين استثنائية سيئة السمعة تقابلها أحداث طائفية، وهو ما يعني أننا أمام أزمة تشريع وحريات سياسية في المقام الأول، خصوصاً أن اصدار قوانين عامة لا تحظى بالقبول الشعبي يفضي الى نتيجتين، الأولى تفكيك أواصر العقد الاجتماعي القائم على اعتبار أن الشرط الأساسي لوجود هذا العقد هو أن تتشكل الارادة العامة وفق مجموع ارادات الأفراد، وهو ما يستوجب وجود رضى عام عن كل قانون عام ينظم العلاقة بين الأفراد والدولة، وهذا لا ينطبق على قانوني الطوارئ ومكافحة الارهاب اللذين قوبلا بسخط شعبي، والنتيجة الثانية هي تشجيع الأفراد على خرق القوانين التي تنظم تعاملاتهم اليومية، فإصدار الدولة قانوناً عاماً لا يتمتع بالحد الأدنى من القبول الشعبي يزعزع ثقة المواطنين في عدالة القوانين المعمول بها وقد يدفعهم الى عدم احترام القوانين التي تنظم معاملاتهم وعلاقاتهم اليومية، ومن ثم فإن موت الجسد السياسي المصري وما يلازمه من تداعيات مثل قمع الحريات وانهيار مبدأ سيادة القانون يؤدي في شكل أو في آخر الى اكساب الحوادث العارضة طبيعة طائفية، في مناخ طائفي موجود بالفعل في الشارع المصري يمده غياب الحريات وانفراط العقد الاجتماعي بالوقود اللازم للبقاء لفترة أطول في غياب ما يطلق عليه برتراند راسل في كتابه «السلطة والفرد» القوة الدامجة التي تتشكل بين المواطنين نتيجة الشعور بالخطر، أي تهديد خارجي لسلامة الدولة، وهو ما ينطبق على الوضع الطائفي في مصر.
ولأن الجماعة الوطنية بين المسلمين والأقباط تشكلت بالأساس في مواجهة الاحتلال، وهو ما يؤكده طارق البشرى في كتابه «الجماعة الوطنية: العزلة والاندماج»، مشيراً الى أن الجماعة الوطنية تتشكل وتتماسك قواها بقدر نهوضها الجمعي للدفاع عن مخاطر الخارج عليها والذود عن أرضها وعن ثوابتها الفكرية وعن مصالحها السياسية والاقتصادية البعيدة المدى.
والمناخ الذي خلقته سياسات مصر الخارجية منذ انتهاء حرب تشرين الأول (أكتوبر) والتي تمثلت في خروج مصر من حلبة الصراع العربي – الاسرائيلي وما لازمه من حالة تبعية للأجندة الأميركية في المنطقة، أدى الى غياب القوة الدامجة اللازمة لتماسك الجماعة الوطنية، لذلك تعتمد الدولة على البعد التاريخي الحاكم للعلاقات بين المسلمين والأقباط، لكنها تمضي قدماً في اصدار القوانين المكبلة للحريات فتزيد من وطأة الاحتقان، أضف الى ذلك تبعية المؤسسة الدينية الرسمية ذات الخطاب الديني المعتدل مثل الأزهر الشريف للدولة التي أعطت شرعية للخطاب الديني المتطرف، كما أن ضيق هامش الحريات وتغييب دور الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني أدى الى تحول الكنيسة المصرية الى مكافئ موضوعي للدولة من وجهة نظر الأقباط، وهو ما يزيد من عزلتهم ويؤثر بالسلب على علاقتهم بالمسلمين، كما يحصر مطالبهم في مجرد الحصول على (كوتا) تضمن لهم عدد من المقاعد في البرلمان وتولي عدد من الوزارات السيادية بالتعيين، ما يمكن أن يحل المشكلة شكلياً لكنه يعمقها من الناحية الموضوعية، فتلك المطالب تعني مأسسة النظام الطائفي في مصر، كما تعني أيضاً ضرب اللعبة الديموقراطية في مقتل ما يزيد من وطأة المشكلة.
هروب الدولة الى التاريخ واللجوء الى سياسة تبويس اللحى عند لحظات الاحتقان الطائفي وهي كثيرة ومتكررة، والسعي لانكار وجود مناخ طائفي في الشارع المصري، لن يحل معضلة الطائفية في مصر ما لم تتقدم الدولة وبراديكالية شديدة في اتجاه كفالة الحريات السياسية العامة وإلغاء ترسانة القوانين المكبلة للحريات ورفع الوصاية عن الخطاب الديني مما يمكن أن يعيد الى الدولة المصرية بعضاً من ملامحها المدنية، ويرد الاعتبار لمبدأ سيادة القانون ربما يكون هذا بمثابة نفخة الروح في جسد مصر السياسي الميت منذ زمن.
طارق أبو العينيين
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد