أنسي الحاج... الشاعر معلماً
- 1 -
لكلمة المعلم في نفسي وقع أكثر من كلمة الأستاذ، ليس لأن الأولى عربية الجذور والدلالة، والأخرى مستعارة كما يشير القاموس، وإنما لأنها أول كلمة إعجاب وعتها ذاكرتي من زمن الطفولة الباكرة، عندما ذهبت الى (مكتب القرية) لأجد أمامي شخصية شديدة المهابة يطلقون عليه لقب المعلم. وأعترف، أنه هو الذي قادني الى الوعي بالأبجدية، التي كان يرسمها على لوح خشبي، الى مصادر المعرفة في مستوياتها المختلفة، فاحتفظت له ثم للقبه الجليل في نفسي بالكثير من المحبة، والكثير من الاحترام. وعلى رغم تقادم العهد وتعاقب السنوات، وتنوّع مستويات التعليم والمعلمين، فما زالت صورة ذلك المعلم وأهالي القرية يحيطونه بهالة من الإكبار والإعجاب تحتل مساحة كبيرة ليس في ذاكرتي فحسب، وإنما في وجداني أيضاً.
لذلك، لم يكن غريباً أن لقب المعلم، هو أول ما يتبادر الى ذهني عند الحديث عن أنسي الحاج الشاعر المعلم، وهو - في تقديري - أول ما يتبادر الى أذهان أجيال من الشعراء الشبان، أو الذين كانوا شباناً، فصاروا أقرب الى الكهولة الآن، لأنه المعلم الذي تخرجوا من مدرسته، وسكن وجدانهم قبل أن يخرجوا عن طريقته، مؤكدين بذلك أنه معلم مختلف عن كل المعلمين، الذين عرفتهم مدارس الإبداع الأدبي والفني. معلم يرفض أن يكون تلاميذه صوراً مكررة منه، وإنما يسعده أن يكونوا زملاء له يفيدون منه، ولا يتبعون إلا مواهبهم واستعدادهم لأن يكونوا هم أنفسهم بما يقدمونه، أو يكتشفونه من طرائق في التعبير، ومن استخدام جديد وغير مسبوق للغة.
لا يمكن الحديث عن المسيرة الشعرية لأنسي الحاج بصفته واحداً من جيل الريادة، ولا حتى الإشارة الى سيرته في عالم الكتابة الفكرية والسياسية، التي تمتد الى أكثر من خمسين سنةً في مكان محصور كهذا، لذلك سأكتفي هنا، بالقول إن مجموعته الشعرية الأولى «لن» صدرت في طبعتها الأولى عن دار مجلة «شعر» في عام 1960. وصدرت مجموعته التي لن تكون الأخيرة «خواتم» عن دار رياض الريس في عام 1991. وكما بدأت المجموعة الأولى ببيان جفّ حبره ولم تجف أفكاره ومعانيه، ومنه: «ليس في الشعر ما هو نهائي. وما دام صنيع الشاعر خاضعاً أبداً لتجربة الشاعر الداخلية، فمن المستحيل الاعتقاد أن شروطاً ما أو قوانين ما، أو حتى أسساً شكلية ما، هي شروط وقوانين وأسس خالدة، مهما يكن نصيبها من الرحابة والجمال» (ص 19). لقد بدأت المجموعة التي لن تكون الأخيرة ببيان مماثل لا يقل أهمية وتجدداً، ومما جاء فيه: «ما يرعب ليس تخيل عالم يموت فيه الشعر (وكل فن داخلي) بل تخيل عالم يسوده نظام برمجة المشاعر والأفكار والغرائز. نظام اللعبة الإلكترونية بعد الدماغ الإلكتروني. نظام تضمحل معه اللذة الداخلية الخاصة الفريدة، العاصية، والتي كان الشعر بمعناه الأوسع، مغنِّيها ومُغْنِيها حارسها ونبيها أبد الأبد. وهو هذا بعض أهم أدواره اليوم وغداً إذا عاد. إذا قام...» ص 14.
بين المجموعة الأولى «لن» ومجموعة «خواتم» ما يزيد عن ثلاثين سنة من الركض في أودية الشعر، والإبحار في فضاءات لا تعرف نهاية أو تحلم بمحطة للاستراحة، وبين أواخر الخمسينات وأوائل السبعينات وقت طويل في حساب الزمن والشعر، وإنجاز لا يختلف قارئان على أهميته وتجاوزه وإدهاشه، لكن الشاعر الذي استدعى كل اللحظات وسافر بعيداً في ملكوت التخييل لم يمل، ولم يتوقف عن استدعاء العوالم الساحرة والمدهشة:
تعبتُ وأنا أنتظرك أيتها اللحظة
اللحظة المنشودة، مفتاح المفاتيح
خلتني مراراً نلتها، وظللت أتوق معتبراً أن ما
سيق لي منها ليس الصميم ولا الأوج
أين الصميم والأوج؟
وعندما جاءا. ألم أجدها دون الضالة المنشودة؟
بلى.
فما أصعده وأهبطه درج لا سقف له غير رأسي الأول،
الرأس الأول، ذلك الفردوس المفقود (خواتم: ص 196).
- 2 -
ليس الإبداع سهلاً، ولو أنه كان كذلك لكان الناس كلهم مبدعين، وتلك من البديهيات المطروحة على قارعة الطريق. وصعوبة الإبداع لا تأتي من الالتزام قواعده المألوفة، بل من الخروج المتألق عليها. والتحرر من المألوف السائد واكتشاف أساليب غير مطروقة، وفي محاولة الاستجابة التلقائية لما يصدر عن موهبة متينة وراسخة في وجدان المبدع، وهذا هو شأن الإبداع في الأذهان المبدعة، لأنه يأتي على غير مثال مسبوق، فهو ابتداع لا يقاس بما قبله، ولأنه كذلك، فقد كان حتماً على المبدعين أو بالأصح المبتدعين الحقيقيين أن يقابلوا بتهم شتى، أقلها الخروج عن المألوف والسائد ومناوأة الموروث المعترف به من الأجيال السابقة، ومن تابعهم وأخذ بأساليبهم من الأجيال اللاحقة المقلدة.
وقليل هم الشعراء العرب المبدعون - قديماً وحديثاً - وهم في العصر الحديث أقل عدداً لاتساع دائرة المحظورات، وما من شك في أن الشاعر أنسي الحاج واحد من هذه القلة المبدعة شعرياً في عصرنا، وهو من بين عدد من الشعراء قلة، انصرفوا منذ بداية دخولهم الى عالم الإبداع الشعري عن محاكاة الموروث، أو مجاراة أنصاره، لا من عجز عن المحاكاة أو إنكار لإنجازاته، وإنما عن رغبة جامحة في المغامرة والابتداع والاكتشاف، والتأسيس لمسار جديد، بعد أن أثقل المثال الجاهز في الكتابة الشعرية كاهل الإبداع، وفي مجموعته الشعرية الرابعة «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» يضع الشاعر أنسي الحاج هذه الإشارة الشعرية التي أراها اعترافاً خالياً من التفاصيل عن علاقة الشاعر بعصره وبموروثه، والحديث موجه الى الله:
ساعدني
ليكن فيّ جميع الشعراء
لأن الوديعة أكبر من يدي. (ص 9)
وهذا يعني أنه متابع دقيق المتابعة لماضي الشعر وراهنه، عربياً وأجنبياً. وما قد يبدو في بعض نصوصه لعباً بالكلمات، ما هو إلا إيغال في التعبير عن محمول دلالات ضاقت العبارة عن استيعابها:
أبحث عن صيحة عذراء طائشة لا أجد.
عيون اللغة الأولى فتحوها، وقبل مجيئي هتكوها
يا حبيبتي. آه لو أكون فقط مملحة ترتبها يداك!
كنتِ موقتة؟ كنتِ! لو أكون لتطرديني، ألتقط آثار يدك على جسدي، أحفظها، آكل كالأحدب
غنيمتي! لو أخيّل على فرارك، أُطيّر استخفافك،
أعضض أرجاءك. آه! لو اطلع من توتري كفأرة من البحر
ونيئاً أصب في عينينك (مجموعة لن: ص 93).
الحديث هنا، من خلال قراءتي الخاصة، هو عن القصيدة في شكلها الموروث، تلك التي امتطاها كل من يجيد الوزن والتقفية، حتى لو كان فقيراً لموهبة أو بلا موهبة على الإطلاق، وهذا ما دفع بأنسي الحاج الى البحث عن لغة عذراء، الى كتابة شعر مضاد أو مختلف، يؤسس لحداثة تنطلق خارج الذاكرة القديمة، رداً على ما اقترفه المقلدون في حق الشعر أولاً، ثم في حق اللغة ومن ما أصابها من تكرار وموات رتيب، وهو بوصفه واحداً من عشاق عذرية اللغة التي لا يدركها سوى الشعراء الكبار أمثاله، ممن يتخيرون لقصائدهم لغة غير مستعملة من قبل، حتى وإن لم تحفر طويلاً في أرض المجاز ذلك العنصر الانزياحي الذي ظل الشعراء يقاومون أن يؤخذ على محمل الجد:
أيتها المرآة أخيراً... أوقفت مروحة الشعر
ورميت آثاري. تمت أرقامي. طلعت من فخذ الهاجس إليك وأسطورتي ترن على بلاط الليل.
أسكتيني، يا من تزينها قشعريرتي!
ولنطلق عرسنا من الأبواب الأخرى...
أطفئ كل بريق في عيني
ولا يبقى غيرك يحرك يحلم بيدي المعميتين
أجراس لذته المجنونة. (الرأس المقطوع: ص 40)
بون شاسع بين فعل الكتابة الشعرية قديماً وفعلها حديثاً، بين من يتمسكون بالجمالية السطحية المتولدة عن الوزن والموسيقى، ومن يشدون الرحال الى عوالم جديدة، وأبعاد رمزية عميقة، بين من يتعاملون مع بنية لغوية منتهكة طال استهلاكها، ومن مبدعين وبنية لغوية لا تزال طازجة، تبدو أكثر احتفاء بالمعنى والأشياء.
(*) تقدم قصيدة «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» على مسرح الأونيسكو - بيروت، في مسرحة وإخراج بتوقيع المخرج رضوان حمزة، في سياق الاحتفال بـ «بيروت عاصمة عالمية للكتاب».
عبد العزيز المقالح
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد