أوكسجين الثقافة والحبر الذي لا يقدم كامل خصوبة العقل
جميل أن تأتي قرنفل إلى دمشق الثقافة، لكنّ الفرحة بمجيئها وزغردات عشاقها الجائعين إلى رؤيتها وحسن استقبالها أنساها (لشو اخترعوا الحكي؟) ففاتها أن تختم طلبات الإفراج عن مثقفين جرّموا بقولٍ تقتضيه ثقافة الحرية، وهي القيمة التي كثيرا ما اشتغل عليها الرحابنة. أم يراد لثقافة دمشق أن تكون شيئا آخر؟
أليس من الطبيعي أن تتملى عروسنا الثقافية وجهها الثقافي في مرآة غير أمنية، وتحدّق فيه بجرأة، من دون مساحيق تجميل ومن دون أضواء خادعة، تحت شمس النهار التي لا تخجل من أحد ولا تخشى أحداً؟ أليس من الواجب أن يقوم أحد ما، ببصيرة العالم النافذة وإرادته الصلبة ورؤيته الواضحة، وبجرأة الفارس، وأسئلة الباحث التي يهز بها المسلّمات والمقدّسات، أن يقوم بتحديد سمات الثقافة التي تتربع دمشق على عرشها هذا العام؟ أم هل يكفي إلحاق (الثقافة) بالـ(العربية) تحديدا، فيكون ما يراد لها هو بالضبط أن تكون (عربية)، فإذا بها، كحال الثقافة العربية عموما، تحت الأبواط والعمامات وفي تلافيف العباءات تنتج رغوة كلام عن أي شيء غير جوهري، مؤصّلة حال الركود؟
المثقفون الذين يعبّرون عن رأيهم علنا بالحبر وليس بالرصاص، يفعلون ذلك لحسن ظنّهم بمن يقرأ فيحاورهم أو يتفكر فيما يقولون. وبصرف النظر عن سداد رأيهم وتقديرهم الصحيح لحساسية اللحظة أو عدمه وعن الشكل الذي يخرجون به رأيهم، فإن ما يقولونه يستحق التفكير لا التجريم. ولا يخفى على قرّاء المؤسسة الأمنية أن أي قول يأتي في مقال جاد أو ساخر هو أقل ألف مرّة مما يتداوله العامّة في خلواتهم، في حلقاتهم الضيقة. أم أن المشكلة هنا بالذات، في إعلان القول؟!
قد يكون من السذاجة، في واقع لا يصبر فيه قوي على قولِ ضعيف، أن ينتظر المرء مشروعا ثقافيا يعلي من شأن الحرّية والكرامة وعزة النفس والإباء ويرفع الاختلاف والتنوّع والانفتاح إلى مصافي القواعد التي دونها كل ثقافةٍ ثقافةُ انحطاط وتدهور وزوال! ومع ذلك يصعب التخلي عن حلم التغيير وانتظار إرادة تغيير يُعلَنُ عنها، كما عودتنا ثقافتنا، من أعلى، يصعب التخلي عن هذا الحلم لأننا دونه صائرون إلى زوال ثقافيا رغم بقائنا، لكثرة عددنا، حيوانيا.
من نافل القول إن الثقافة ليست الآداب والفنون فقط بل وأشياء أخرى كثيرة ليس أقلها أهمية علاقات البشر الذين يقوم عليهم مجتمع معين ودولة معينة ببعضهم، وعلاقتهم بدولتهم وبنظامهم السياسي، وطرائق تعاطيهم مع ما يخص حيواتهم ويحدد مصائرهم بعضٌ من الثقافة أيضاً. ومن المؤسف القول هنا إن العلاقات التي تقوم على الإقصاء والإلغاء وتقديس الرأي الواحد والشخص الواحد، ومصادرة ما يخالفه أو إلغاء صاحبه جسديا، العلاقات التي تربط الدولة نفسها من خلالها بمواطنيها تشكّل نموذجا تنبني عليه علاقات المواطنين بعضهم ببعض، ناهيك بانعكاس ذلك في الثقافة بمفهومها الضيق. أليس يقتل العراقيين اليوم تلك الثقافة التي قامت على إلغاء الرأي الآخر وصادرته وقمعته واعتقلت ونفت وغرّبت جسديا وعقليا وروحيا من يقول به؟ أليس يقتلهم اليوم تلك الثقافة التي زينت الأخطاء وصفقت للسياسات المدمرة والحروب الخاسرة وروّجت للرياء والنفاق وأغمضت عيونها عن المستقبل فإذا به ينحصر بما يراه شخص واحد أو حلقة ضيقة مفصولة عن حاجات المواطنين، بوصفهم كائنات ثقافية وليس فقط حيوانية، كائنات تحتاج إلى التعبير عن نفسها، عن تفرّدها واختلافها، عن حاجاتها، عن رأيها فيما يخص حياتها البيولوجية والثقافية، كائنات من حقها أن تُستفتى على مصيرها، كائنات لا يحق لأحد أن يبيع وطنها باسمها، وأن يخوض حروبا خاسرة باسمها، وأن ينتهج سياسات تدمّر مستقبل أبنائها باسمها، ولا يحق لأحد أن يمثلها إلا من تختاره بملء حريتها وإرادتها، وتكون قادرة على عزله في اللحظة التي يخيّب فيها آمالها، أليس التصفيق لما يلغي كل هذه الحقوق في الثقافة السياسية والثقافة عموما هو بعض مما يقتل العراقيين اليوم؟ أليس تقتل العراقيين اليوم تلك الثقافة التي طُوّعت في سراديب المخابرات لتصفّق لازدهار النصف الحيواني من رعايا النظام الأمني؟
ليس سرّا أن تضييق الخناق على حرية التعبير ينعكس قبل كل شيء على الثقافة وفي الثقافة. فإذا بها تنتهي إلى مجرّد (شر لا بد منه)، وليس خفيّا أن فعل المنع لا يطاول القول المعلن فقط، بل هو يطاول كل قول محتمل. وليس من فضائل القبضة الممسكة بخناق الثقافة ظهور رواية (شاذة) أو قصيدة (متمردة) أو مقالة نقّادة هنا وهناك، فالثقافة، على أهمية بعض مما يكتب، أكبر من نص ينشر، حيث لا سلطة ليد المنع الأمنية، وأمّا خصوبة العقل السوري فأكبر ألف مرّة مما أَعلن عنه الحبر إلى اليوم.
يخيّل إليَّ أن الخطوة الأولى في تحديد ما تنتظر الثقافة من عاصمتها أن تكونه، هي تحديد ما يجب أن لا تكونه. على أن التوقف عن انتهاج سياسات خاطئة لا يعني تلقائيا اتباع سياسات صحيحة. فالصواب ليس هو مقلوب الخطأ. ومعلوم أنّ ثقافة الحرية، كما هو مقلوبها، تنتج كتابا ولوحة ومسرحية ورقصة وموسيقى من طبيعتها، وتشكل حاضنة لمؤسسات تربوية وعلمية واجتماعية على شاكلتها. فأي الثقافتين تريد لنا عاصمتنا؟ ثقافة زوال أم ثقافة من شأنها أن تُري العالمَ كيف يكون السوري حين يكون حرّاً، مؤكّدة أن السوري يمكن أن يبدع ليس فقط في مهجره أو منفاه بل وفي وطنه؟
طبيعي أن إنتاج الثقافة ليس تفاعلا كيميائيا سرعان ما تظهر نتائجه. ولعل ذلك ما من شأنه أن يُطمئن أصحاب القرار الذين قد يخشون على مواقعهم ومصالحهم من ثقافة حرّة نقّادة، فليس للثقافة أن تقلب موازين القوى والمصالح في سنة أو سنتين أو سبع أو عشر.
ما يبدو، للأسف، واضحا إلى الآن هو أن عام 2008 يبشّر بأن يكون امتدادا رماديا للأعوام التي سبقته، وجلّ ما قد نحتفي به نوافذ ثقافية أو مختبرات ثقافية، تتيح الفرجة على ثقافة مغايرة منمّاة في دفيئات ومعروضة في إطارها الثقافي الضيق المعزول، بحيث يمكن الإتيان على مثيلاتها في أية لحظة يسري معها دبيب النمل في يدٍ أمنية ترى الحكمة في إغلاق الأبواب التي تأتي منها الريح، بما في ذلك رياح التغيير الثقافي، فإذا بها تغلق الأبواب أمام الأوكسيجين. أليست الحرية الأوكسيجين الثقافة، أليس التنوع والاختلاف جذرها المولّد، أليس التجاوز من أهم وظائفها ليكون ممكنا الإبداع لا التكرار!؟
دمشق أمام اختبار جديد، فإما أن تضيف حلقة إلى قيد الثقافة العربية الذي يكبّل العقل ويغلق الأبواب أمام المستقبل، أو أن تقطع السلاسل وتحرر العقل تاركة له أن يتدفق فإذا به جمال ونماء وإذا به أكثر قوة وقدرة على مواجهة المعتدين وإحباط مشاريعهم، أم أنّ لدينا غير العقل وإبداعاته ما نواجه به أعداء وطننا!؟.
منذر بدر حلوم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد