إنهم يطلقون النار على زكريا تامر
الجمل - خطيب بدلة: جريدة الوطن السورية بتاريخ 25 / 8 / 2009 مراجعة صحفية لأحداث غريبة جرت في أحد مدرجات كلية الآداب بجامعة دمشق حيث نوقشت أطروحة دكتوراه في قسم اللغة العربية بعنوان "الشخصية في قصص زكريا تامر"، واستغل السادة الدكاترة الأكاديميون هذه المناسبة من أجل أن يثبتوا فكرة تؤرقهم على ما يبدو منذ زمن بعيد، وهي أن زكريا تامر كاتب (حي الله)، أي أنه من جملة الكتاب الذين يُبتلى بهم الوسط الأدبي، ويلصقون به، فلا يستطيع هذا الوسط منهم فكاكاً!
لن نتدخل- بالطبع- في سوية الأطروحة التي تحدثوا عنها، أو في ملابساتها الفنية، فهذا ليس من اختصاصنا، إذ لا يجوز أن نتحدث عن شيء لم نقرأه ولا نعرفه.
***
من جملة ما أتحفنا به أحد أعضاء لجنة الحكم، وهو الناقد الدكتور نضال الصالح صاحب نظرية (التوثين الشهيرة)، أن السيد، أو الأخ، أو المدعو زكريا تامر "عُرِفَ قاصاً وليس أديباً"، وهذا يشير، بشفافية تكاد تصل إلى حدود الصراحة، إلى أن لدى د. الصالح معلومات جديدة، وأكيدة، يعرفها هو ولا نعرفها نحن المتابعين (الغلابا)، مفادها أن: القاص شيء والأديب شيء آخر!
وبما أننا نحن (الغلابا) نمشي وراء الناقد المبدع خطوة خطوة، وننتظره حتى يُخرج تنظيراته إلى العلن، ثم نبدأ بالقياس عليها، فقد توصل ذهننا المسكين إلى نتائج مفادها- على سبيل المثال- أن السادة: محمود درويش، ونزار قباني، وأمل دنقل، وعبد القادر الحصني، وفايز خضور، ومنذر مصري، وسنية صالح، ليسوا أدباء، بل هم (مجرد) شعراء! والسادة: سعيد حورانية، وابراهيم صموئيل، وحسن م يوسف، ومالك صقور، وتاج الدين الموسى، وأمثالهم، ليسوا أدباء، بل هم (مجرد) قاصين!.. وسعد الله ونوس ومحمود دياب وعبد الكريم برشيد وفرحان بلبل وحمدي موصلي ليسوا أدباء، بل هم مجرد كتاب مسرحيين!
ويضيف صاحب التوثين: إنه لمن ضيق الأفق أن نتحدث عن (أدب) لدى زكريا تامر!
وهذا يجعلنا نتساءل، على سبيل الممازحة التي لا تليق بذلك المجلس الأكاديمي ذي المستوى الرفيع: ما الذي لدى زكريا تامر إذن؟ أهو، لا مؤاخذة، قلة (أدب)؟!
ويذهب إلى أبعد من ذلك إذ يقول بأن تناول تجربة تامر في أطروحة دكتوراه غير دقيق علمياً، فما بالك بأن نتناول عنصراً من عناصر تجربته الأدبية (يقصد الشخصية)!! إنْ هذا إلا تدليس على الحقيقة.. فمجمل تجربة تامر القصصية لا يكتب عنها سوى 50 صفحة! ومنذ أول مجموعة لزكريا تامر إلى آخر مجموعة نستطيع أن نتحدث عن نص قصصي لا عن (تجربة)!!..
ههنا ينتبه عقلنا القاصر إلى أسئلة ربما غابت عن عقل الناقد الحصيف أثناء إدلائه بآرائه، بسبب كثرة مشاغله وتداخل انشطته الإبداعية، وهي التالية:
ما نوع الخط الذي يمكن أن تُكتب به الصفحات الخمسون التي أشار إليها؟ أهو يدوي أم كومبيوتري؟ والصفحات فولسكاب أم (A 4)؟ وكم هو حجم الحرف (12، 14، 16، 18، 20..)؟ ومن الذي سيكتب تلك الصفحات الخمسين؟ كاتب (فطحل) (فهمنداري).. أم كاتب مستجد يشق طريقه وسط الزحام؟
ثم.. كيف يقول د. الصالح إننا لا نستطيع أن نتحدث عن (تجربة) لدى زكريا تامر، وكيف يقول: مجمل (تجربة) تامر القصصية لا يكتب عنها سوى 50 صفحة! يعني بصراحة نريد منه أن (يَرْكُزَ) على قرار: أهي تجربة أم ليست تجربة؟
***
ويصل د. الصالح في مناقشته إلى الفكرة الأثيرة لديه، أعني فكرة (التوثين)، فيقول:
نحن نوثّن أسماء غير جديرة بالتوثين.. فلو جاء زكريا تامر ونشر الآن مجموعته القصصية الأولى "صهيل الجواد الأبيض" فلن يلتفت إليها أحد.. بوصفها قصصاً مخلصة لشرطها التاريخي! إن من يتناول زكريا تامر يسرف في توثينه وتبجيله شأنه في ذلك شأن من وثنّاهم..
لنناقش هذا المقطع الملتبس على طريق الخطوة خطوة التي اخترعها هنري كيسنجر في أواسط السبعينيات، فنقول:
أولاً- هل ثمة أسماء جديرة بالتوثين، وأسماء غير جديرة به؟
ثانياً- مَنْ هم المقصودون بـ (نحن) الذين يوثنون أسماء غير جديرة بالتوثين؟
ثالثاً- مَن هم الأشخاص قليلو الأهمية، الذين ليسوا بأدباء بل هم قاصون، الذين نستطيع أن نتحدث عن نص قصصي لديهم لا عن تجربة!!..، الذين وثناهم (نحنُ) قبل أن نوثن زكريا تامر؟
رابعاً- هل نحن، كما يَسِمُنا الصالح، من عبدة الأوثان؟ وإذا كان هو يوافق على أن عبدة الأوثان قوم أغبياء، ألا يعني هذا صراحة اتهامنا (نحن) بالغباء؟.. بل وبالسخف!
خامساً- إذا كانت قصص "صهيل الجواد الأبيض" مخلصة لشرطها التاريخي!.. فما هو المسوغ الأدبي، أو القصصي، أو الفني، أو النقدي، أو المنطقي، أو الذوقي، الذي يجعلنا ننظر إليها الآن بعيداً عن شرطها التاريخي؟ وما المانع أن تدرس هذه المجموعة القصصية أو غيرها ضمن شرطها التاريخي؟
***
ويزيد عضو لجنة التحكيم الآخر د. خليل الموسى في طيننا بلة حينما ينصح صاحبة الأطروحة بألا تصنع من تامر الرائدَ الأول في القصة، مخاطباً إياها بقوله:
- أنتِ مَنْ مات في الرسالة.. سُحرت بتامر لأنه أكثَرَ من التعبير عن المسكوت عنه (السياسة، الدين، الجنس) وأن لديه قدرة على الشاعرية فألهانا عن البناء الهش. عندما ينتهي هذا المسكوت عنه.. ماذا يبقى لدى تامر؟.. إنه يصنع عمارات مثل مؤسسة الإسكان تحتاج إلى إعادة بناء! مضيفاً أن تامر يعزف على وتر ما يطلبه الجمهور، وأنه لم يكتب سوى نص وحيد، ونوّع عليه.. وأن لديه أخطاء إملائية بالعشرات..
مرة أخرى سيفعل عقلُنا الخامل فعله في طرح الأسئلة على السادة الأكاديميين، منتظرين منهم الإجابات الجامعة المانعة القاطعة.. على أحر من الجمر:
أولاً- هل يوجد أخو أخته من الكتاب استطاع أن يحصل على مثقال ذرة من الأهمية من دون أن يتجرأ على التابوهات الثلاثة المسكوت عنها (السياسة، الدين، الجنس)؟ أرجو أن تذكر لي اسماً واحداً لا أكثر، وتعطيني مثالاً من نص له خال من المسكوت عنه، وهو نص، في الوقت نفسه، مهم.
ثانياً- كيف يكون بناء القصة لدى زكريا تامر هشاً، وكيف يسحر هذا البناء الهش ألوف القراء، والأدباء، والنقاد، ويكرسه قاصاً استثنائياً، حتى إن قناعة رسخت في وجدان أجيال بأكملها قسمت القصة إلى زمنين هما: قبل زكريا تامر، وبعد زكريا تامر؟
(بهذا المعنى تغدو الهشاشة في البنيان واحدة من أبرز مزايا النص الأدبي)!!
ثالثاً- إن (كل) ما كتبه زكريا تامر..، وكرسه كاتباً استثنائياً، يمكن تلخيصه في أنه (يختلف) عما هو سائد، وعما (يطلبه الجمهور)! وإنه لأمر بالغ الطرافة أن يقول ناقد أكاديمي بمثل هذا الكلام!
رابعاً- وإن الطرافة لدى الدكتور الموسى تبلغ حدود الإضحاك القسري حينما يحكي عن نص واحد كتبه زكريا تامر ونوع عليه. حسناً، أنا سأسأل: أي واحد من نصوص زكريا تامر الأخرى يشبه نص "النمور في اليوم العاشر"؟
خامساً- إن ثمة معلومة قد لا تكون مهمة، ولكنني شخصياً أعتقد بأهميتها، تقول بالحرف الواحد: إن في سورية عشرات الكتاب المتخرجين في كليات الأدب العربي، لا يغلطون في الإملاء، ويتقنون النحو والصرف، والعَروض، وأسرار البلاغة، والاستعارات المكنية وغير المكنية، والمنادى المرخم، والمنادى المرفوع على الحكاية.. ولكن سورية فيها زكريا تامر واحد، وحسيب كيالي واحد، وسعيد حورانية واحد، وحنا مينة واحد، ونزار قباني واحد، ووليد إخلاصي واحد، وعبد السلام العجيلي واحد، وسعد الله ونوس واحد، ومحمد كامل الخطيب واحد...
سادساً- في جلسة جمعتني بكاتبنا الكبير زكريا تامر، وأدباء كبار آخرين، قال الأستاذ وليد إخلاصي:
- هل تعرفون أن زكريا تامر يعيد كتابة القصة الواحدة خمسين مرة؟
زكريا تامر أكد على صحة المعلومة.
إنه، بالطبع، يفعل ذلك لينقي قصته من الأخطاء اللغوية والفنية، وليخرجها بصياغة تشبه صياغة الذهب والماس، وهذا واحد فقط من الأسباب التي تجعل زكريا تامر كاتباً كبيراً، لا يشبهه أحد.
***
ملاحظتان أخيرتان:
الأولى: في حدود معرفتي أن مناقشة رسالة دكتوراه لأحد الطلاب ينبغي أن تقتصر على ما قدمه الطالب، ولا يجوز نقل المعركة إلى ميدان الشخص الذي يدرسُه الطالب.
الثانية: أرى أنه يجدر بعمادة كلية الآداب بجامعة دمشق أن تقدم الاعتذار للأديب الكبير زكريا تامر عما حصل، وألا يتكرر مثل هذا الشطط على مدرجاتها في وقت لاحق.
إضافة تعليق جديد