اسـتطباب جديد لعقـار قديم: "الكلوروكين" هل يمنع السرطان؟!

14-04-2008

اسـتطباب جديد لعقـار قديم: "الكلوروكين" هل يمنع السرطان؟!

حدث ذلك في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي, وتحديداً في تنزانيا, عندما قام باحثون من دول مختلفة يعملون ضمن إطار خطط خمسية لمكافحة الملاريا بتوزيع ملايين الجرعات من عقار الكلوروكين المضاد للملاريا على الأطفال التنزانيين. وعلى الرغم من أن تلك الخطط والدراسات لم تثمر نتائج مهمة على صعيد الوقاية من الملاريا, إلا أن هناك ملاحظة مهمة أثارت انتباه الباحثين وهي انخفاض نسبة حدوث لمفوما بوركيت (وهي نوع من سرطانات الدم) بين أولئك الأطفال.
ومؤخراً أظهرت دراسات حديثة على الفئران أن الكلوروكين يمكنه بالفعل أن يمنع حدوث لمفوما بوركيت, وكذلك يمنع مرضاً آخر نادراً يسمى رنح توسع الشعريات ataxia telangiectasia  يتهم بأنه يمكن أن يؤدي إلى حدوث سرطان دم من نوع الابيضاض.
لمفوما بوركيت:
لمفوما بوركيت هو سرطان لمفاوي نادر ينتشر بشكل خاص في وسط افريقيا, وقد سمي كذلك نسبة إلى الطبيب الجراح الانكليزي دينيس بوركيت(1911 ـ 1993) Denis Burkitt الذي وضع خارطة جغرافية لتوزع المرض في افريقيا. وقد اتهم بإحداث المرض فيروس ابشتين بار Epstein-Barr كما لوحظ ازدياد حدوثه لدى المصابين بالملاريا. ورغم أن هذا السرطان يحدث على حساب خلايا الدم البيضاء اللمفاوية من النمط ب Lymphocytes B إلا أنه ينتقل بشكل نموذجي إلى مناطق خارج الجهاز اللمفاوي مثل نقي العظم والدم والجملة العصبية المركزية.
يبدأ المرض عندما تقوم نسخة مفعّلة من مورثة تسمى myc  بتحويل خلايا الدم اللمفاوية البيضاء السليمة إلى خبيثة. وبشكل نموذجي يبدأ المسار الانحداري بأذية غير قابلة للإصلاح في الـ د ن أ DNA مما يقود إلى تحرك الأجزاء من الـ د ن أ DNA التي تضم المورثة myc وانتقالها إلى مواقع غير مألوفة على الصبغيات, وفي هذه المواقع الجديدة يمكن أن تتفعّل المورثة myc. يؤدي هذا التفعيل إلى إنتاج كميات غزيرة من البروتين الذي ترمز إليه المورثة المذكورة, و تحرض تلك الكميات الغزيرة من البروتين اللمفاويات البائية على التكاثر الخارج عن حدود السيطرة. وذلك وفقاً لما يذكره تقرير نشر في عدد كانون الثاني 2008 من مجلة البحوث السريرية Journal of Clinical Investigation , وأعده بالاشتراك مع زملاء له مايكل ب. كاستين, وهو عالم بأورام الأطفال في مشفى القديس جود لأبحاث الأطفال في مدينة ممفيس, ولاية تينيسي الأمريكية.
ويشرح كاستين وزملاؤه في تقريرهم كيف أن الخلايا المتكاثرة بشكل غير طبيعي والمحرضة ببروتينات myc تحافظ على إمدادها الغذائي عبر عمليات سرقة الخلايا الطبيعية أو ما يسمى البلعمة الذاتية autophagy (التي تقوم فيها خلايا بتقطيع وطرح مكونات خلايا متأذية أو عاطلة, مثل البروتينات, وهذه الظاهرة يمكن أن تحدث كذلك بشكل مفيد وملائم في ظروف المجاعة وأوقات الشدة الأخرى, حيث يعاد تدوير وتصنيع المركبات المغذية للحفاظ على حياة الخلية). ويعلق كاستين على ذلك قائلاً:" تمتلك خلايا لمفوما بوركيت شهية شرهة تجعلها تستولي على العمليات الحيوية لملاءمتها بما يناسب احتياجاتها الخاصة للنمو".
وعلى ما يبدو فإن الكلوروكين يهاجم الخلايا السرطانية التي تصنع الكميات المفرطة من بروتينات myc ويوقف البلعمة الذاتية في تلك الخلايا, مما يؤخر تطور السرطان, ففي تجارب على فئران ذات مورثات myc مفرطة الفعالية (نوع من لمفوما بوركيت) استمرت الحيوانات التي أعطيت الكلوروكين على قيد الحياة 265 يوماً بشكل وسطي, بينما الحيوانات التي لم تعط الكلوروكين عاشت وسطياً 98 يوماً. وإذا كانت إحدى العلامات قبيل السرطانية للمفوما بوركيت هي الارتفاع الكبير في تعداد كريات الدم البيضاء, فإن كاستين وفريقه قد اكتشفوا أن ثلاث جرعات فقط من الكلوروكين قد جعلت تعدادات الكريات البيضاء في فئران فتية تعود إلى المجال الطبيعي بعدما كانت بدأت بالارتفاع.
من جهة أخرى يبدو أن الفئران التي تركت اللمفوما لديها تتطور حتى بلغت مرحلة النضج الكامل قبل أن تتلقى الكلوروكين لم تستفد منه على الإطلاق. حيث وجد العلماء أن الكلوروكين يعمل فقط بوجود بروتين وظيفي كابت للأورام يسمى p53 , ويبدو أن الأورام المكتملة النضج فقط يمكنها أن تستولي على الذراع العلوية للـ p53 وتسكت المورثة التي ترمز إليها.
من كل ما سبق وبدمج المعطيات في سياق متصل يستنتج كاستين وفريقه أن التوزيع الواسع للكلوروكين في تنزانيا يمكن أن يكون قد منع حدوث العديد من حالات لمفوما بوركيت. ولكن معطيات البروتين p53 أثارت الشكوك حول فائدة الكلوروكين في الحالات المتطورة من لمفوما بوركيت. إنما لا يمنع ذلك أحد الأطباء الذين شاركوا في دراسات تنزانيا, وهو طبيب صحة عامة في مركز صحي عالمي في نيو ويندسور يدعى غلين بروبيكر, من إبداء دهشته والتعبير عن مفاجأته بالتقرير الجديد الذي يصفه بالمفيد, ثم يضيف:" ربما نكون أضعنا اتجاه تأثير الكلوروكين".
طبعاً لقد شحذت النتائج السابقة همم الباحثين والعلماء حيث تقوم حالياً مجموعات بحثية عديدة باستقصاء تأثير الكلوروكين على مختلف أنواع السرطانات الخبيثة, خاصة وأن مورثة myc متهمة بالتورط في حوالي أربعين بالمائة من السرطانات المعروفة.
من جهته يلخص كاي ﭪ. دانغ, وهو عالم بأورام الدم في كلية جون هوبكنز الطبية في بالتيمور, مجمل الأبحاث والاكتشافات الحديثة بقوله:"يبدو أن الكلوروكين يمكن أن يمنع السرطان في أناس ذوي حالات وراثية مؤهبة للسرطانات أو حالات قبيل سرطانية. كذلك يمكن أن يكون مفيداً لدى مرضى السرطانات الذين يتعرضون للجراحة لاستئصال أورامهم لكنهم يبقون غالباً معرضين لخطر النكس". ويختم دانغ بالقول:"إنه لشيء جميل أن نكتشف استطبابات جديدة لعقار قديم".


د. عمار سليمان علي
المصدر: www.sciencenews.org

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...