الآيديولوجيا الدينية تخنق الثقافة الفلسطينية
لم تستطع وزارة التربية والتعليم الفلسطينية التنصل من المعلومات التي أثارت ضجة لدى الفلسطينيين والعرب، ومؤداها أن الوزارة التي يتولاها عضو قيادة «حماس» ناصرالدين الشاعر اتخذت قراراً باتلاف (أي إحراق) جميع نسخ كتاب «قول يا طير» الموجودة في مكتبات المدارس الفلسطينية، بدعوى تضمن الكتاب ألفاظاً «تخدش الحياء».
والكتاب الذي صدر أصلاً بالانكليزية في عنوان «Sheak Bird، Speak Again» نقل الى العربية ونشرته مؤسسة الدراسات الفلسطينية في عنوان «قول يا طير»، وهو نتاج جهد في تجميع حكايات شعبية فلسطينية ودراستها، أداه بكفاءة الاكاديميان الفلسطينيان ابراهيم مهوي وشريف كناعنة.
وحين نقول «حكايات شعبية» فهذا يعني انها مروية باللهجة الفلسطينية المحكية التي ترجع مفرداتها وصياغاتها الى جذور عربية وما قبل عربية، وهذه اللهجة بتركيبها الثقافي المعقد انما تشكل واحداً من معالم الهوية الفلسطينية المتنوعة الأصول، مثلما هي حال الهويات المشرقية وربما العالمية أيضاً التي يجرى في أيامنا الحاضرة اختزالها أو تجفيفها، لمصلحة هوية جزئية أو مفروضة تتجلى معالمها في شكلين يبدوان متناقضين سياسياً، لكنهما متكاملان في ارهاب ثقافة الناس والعمل على طمسها أو خنقها، ونعني بالشكلين: الأمركة (التي ترافق العولمة) والاسلاموية التي تغطي الغنى الثقافي للشعوب العربية والاسلامية برداء تسميه اسلامياً فيما هو يستعير التراثين الفارسي (في جزء من ايران) والبشتوني (في باكستـــــــــان وافغانستــــــــــان) وينسب اليهما صفة الاسلام بل يحصرها فيهما، وباسم هذه الحصرية تتم عملية خنق الثقافات الشعبية.
45 حكاية شعبية فلسطينية يضمها الكتاب، ويحدد المؤلفان ثلاث نقاط للبعد الوطني لهذه الحكايات: الأولى تزويد الحكايات بدراسة شاملة تعطي صورة وافية عن المجتمع الفلسطيني وثقافته، والثانية ان الحكايات والدراسات عنها تصلح مرجعاً لمعرفة انتروبولوجيا الشرق الأوسط من خلال عينة منه، والثالثة هي علامات ربط هذه الحكايات بباقي التراث العربي المشرقي والأوسع وكذلك بالتراث الانساني... ما يعزز الصلة بين الشعوب أو يؤكد، على الاقل، وجود هذه الصلة في مرحلة يعلو فيها الصراخ الايديولوجي بانقطاع الجماعات الانسانية عن بعضها بعضاً والدعوة الى حروب لا تنتهي بين هذه الجماعات.
لا تريــــــــــــــد وزارة «حمــــــاس» لطلاب المدارس الفلسطينية الاطلاع على هذه الحكايات التي هي بالأصـــل وبالفعل اليومــــــــــي تراث أهلهم الشفوي، فيما تشجع الاملاءات الايديولوجية التي تجفف التراث الشعبي الفلسطيني وصــولاً الى «عولمــــــــة اسلاموية» تجعل الوطنية الفلسطينية أمراً فاقداً للأهمية وتحيل النضال الفلسطيني الى نضال بلا معالم أو أنه ذو معلم واحد، هو النضال «الاسلاموي» الذي تتساوى حركته في فلسطين أو في افغانستان، لا فرق، فأرض الله واسعة.
وربما استشعر المثقفون الفلسطينيون قبل غيرهم خطر منع «حماس» تداول هذا الكتاب في المدارس الفلسطينية، لأن هذا المنع هو استمرار لحروب الشوارع الفلسطينية – الفلسطينية التي كادت أو تكاد تؤسس لحرب أهلية لدى شعب يعاني جميعه من خطر الاحتلال الاسرائيلي على وجوده.
أليس ملفتاً ومؤسفاً أن يجد المثقف الفلسطيني نفسه في موقع الدفاع عن ثقافة شعبه، وهذه المرة في مواجهة الايديولوجيا الاسلاموية التي تحملها «حماس» بعدما اعتاد الدفاع في مواجهة الاستيطان الاسرائيلي الذي يعتبر أنه اتى بشعب (له ثقافته) من دون أرض ليسكن أرضاً «بلا شعب» (إذ يصور الصهاينة الاوائل الفلسطينيين أقليات بدوية مترحلة فوق أرض فلسطين والبلاد المجاورة).
ويتنادى المثقفون الفلسطينيون لمواجهة قرار «حماس» باعدام الثقافة الشعبية الفلسطينية من خلال منعها واحراقها كتاباً يضم حكايات شعبية متداولة. والمواجهة التي يخوضها المثقفون الفلسطينيون هي علامة على مواجهة مطلوبة في العالمين العربي والاسلامي ضد عمليات تجفيف الحياة التي يؤديها معاً التبسيطيون المعولمون المتأمركون والاسلامويون التبسيطيون أيضاً.
وبسبب هذه المواجهة، ربما، يلاحظ المتابعون المتغيرات الحاصلة في النتاج الأدبي والشعري الفلسطيني والعربي بعامة، وأبرز هذه المتغيرات شعر محمود درويش الذي يمتلك حساسية للوجدان الفلسطيني لا يضاهيه فيها أحد.
محمد علي فرحات
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد