البغدادي بين المؤامرة و«البعث» و«الخلافة»
بين جامع الحاج زيدان في منطقة الطوبجي غرب بغداد، وجامع الموصل الكبير، نُسجت حكاية «الخليفة» أو زعيم تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ «داعش» أبي بكر البغدادي، الذي يُعدّ من أكثر الأشخاص شهرةً وخطورةً في العالم.
وهذا الرجل الذي لم يظهر بصورته الحقيقية سوى مرة واحدة فقط منذ توليه زعامة التنظيم، أصبح لغزاً محيّراً تسعى مراكز دراسات عالمية وأجهزة استخبارات عديدة وصحافيون وعلماء اجتماع وغيرهم لفك رموز الشيفرة، التي جعلت من إمام جامعٍ عادي في أحد أحياء العاصمة العراقية لاعباً أساسياً في لعبةٍ كبرى قلبت المنطقة برمتها رأساً على عقب.
الشّاب إبراهيم بن عوّاد البدري، الذي كان يجد صعوبة في إقناع أشقائه وأقربائه بضرورة الالتزام الديني وممارسة شعائر العبادة من صلاة وصوم وزكاة، استطاع بعد سنين قليلة أن يحصل على «مبايعات» كثيرة من تنظيمات معروفة وقادة فصائل كبار ومتزعمي مجموعات متنفذين منتمين إلى بلدان مختلفة وناطقين بلغات متعددة، باعتباره «ولي أمر المسلمين» الذي يجب أن يدين له الجميع بالطاعة والولاء، متفوقاً بذلك، ليس على أسلافه الذين قادوا التنظيم قبله فحسب، بل على جميع من ادّعوا قيادة «الجهاد» في أي مكان من العالم، فلم يسبق لأحد هؤلاء أن حصل على التأييد والولاء من هذا العدد الكبير من التنظيمات والمجموعات.
لكن أبا دعاء، وهو اللقب الذي كان يُعرف به قبل توليه زعامة التنظيم في العام 2010، لم يكن في صدد تحقيق قصة نجاح شخصية تمنحه السبق على أقرانه فحسب، بل كان لديه مشروع ضخم يعمل على إنجازه واستكماله.
وهذا المشروع الذي كان مقتصراً في السنة الأولى من زعامته، على العراق فقط، رُفعت من أمامه إحدى أهم العقبات التي كانت تؤخره وتعرقله. وبالتزامن بين تفكيك «صحوات العشائر» التي نجحت في محاربة التنظيم وتشتيته سابقاً خلال العامين 2007 و2009، وبين قرار القوات الأميركية بالانسحاب من العراق بعد احتلاله منذ العام 2003، بالإضافة إلى «طاقة الفرج» التي فُتحت له من خلال الأزمة السورية، كان التنظيم الذي تلقّى أقوى ضربة منذ تأسيسه وتوّجت بمقتل زعيمه أبي عمر البغدادي ووزير حربه أبي حمزة المهاجر (أبو أيوب المصري)، يعود إلى مسرح الأحداث بعد أشهر طويلة من الانزواء والانكفاء، لكن هذه المرة بزخم أقوى على يد زعيمه الجديد أبي بكر البغدادي، ولم يعد نشاطه مقتصراً على العراق فقط بل شمل سوريا أيضاً، وعدداً من دول المنطقة والعالم.
وقد انقسمت الرؤى حول تفسير قدرة البغدادي على النهوض بالتنظيم وتحقيق هذا التقدم الكبير، وصولاً لإعلانه «الخلافة» أواخر حزيران العام 2014، بين نظرية «المؤامرة» التي تَعْتَبِر «داعشَ» مجرد أداة بيد أجهزة استخبارات تابعة لدول إقليمية ودولية كبرى تريد تنفيذ أجندات خاصة بها تتعلق بتقسيم المنطقة وإعادة رسم خرائطها، وأن هذه الأجهزة هي التي مدّت وتمد التنظيم بأسباب القوة، وبين نظرية «الجهاد البعثي» التي تفسّر عودة التنظيم بعد سنوات الانزواء في صحراء الأنبار بأنها نتيجة تحالف قام بين قادة التنظيم من جهة وبين ضباط الجيش العراقي المنحل من جهة ثانية، وأن البغدادي نفسه كان عرّاب هذا التحالف عندما اجتمع الطرفان في سجن بوكا.
وقد انتشرت الفرضية الثانية بشكل واسع، بالرغم من أن البغدادي لم يقضِ في سجن بوكا سوى أشهر قليلة ليست كافية لنسج التحالف الذي يتم الحديث عنه، ناهيك أن فترة اعتقاله كانت في العام 2004 أي قبل سنتين من إعلان «دولة العراق الإسلامية». أما فرضية المؤامرة فلم تعد تحظى بأي مصداقية، خاصةً أنها تحولت إلى «مؤامرات»، وكل طرف من أطراف الحرب ضد «داعش» يحاول إثبات عمالته لخصومه ومنافسيه، فتارة هو عميل لإيران وسوريا وروسيا، وتارة أخرى عميل لواشنطن وأنقرة والدوحة. وأصبح تبادل الاتهامات بشأنه لا يحتاج إلى دليل، فيكفي إثبات أنه التقى شخصاً ما في عاصمة ما ليقال إن البغدادي صنيعة هذه العاصمة.
في غضون ذلك، هناك حقائق لا يمكن إنكارها. ومن قبيل ذلك أن عدداً من كبار قادة التنظيم، الذين يلتفّون حول البغدادي، هم في الحقيقة ضباط سابقون في الجيش العراقي. ولكن هل يكفي ذلك للقول بأن التنظيم بات «ذراعاً سرية» لحزب «البعث»؟، لا سيما أن سلوكيات الضباط المنتمين إلى «داعش»، والذين يقودون غالبية عملياته العسكرية، تؤكد العكس، أي أن التنظيم هو الذي نجح في استقطاب هؤلاء الضباط ودمجهم في بنيته التنظيمية وتسخير خبراتهم وطاقاتهم لخدمة أهدافه. والغريب أن من يتبنّى هذه النظرية يرفض مقارنتها بظاهرة «الجيش الحر» في سوريا الذي يتكون بحسب قولهم من ضباط منشقين عن الجيش السوري (البعثي).
وما يؤكد هذا، أن البغدادي نفسه في بداية توليه زعامة التنظيم، كان استناداً إلى الخبرات التي اكتسبها منذ مشاركته في القتال ضد القوات الأميركية في العام 2003 ثم ارتقائه المناصب في تنظيم «القاعدة» و «دولة العراق»، قد وضع خطة متكاملة تهدف إلى أمرين: الأول إبراز الكفاءات العسكرية الموجودة ضمن التنظيم وتسليمها مناصب قيادية لأن المرحلة تحتاج إليها. والثاني: محاولة اجتذاب المزيد من هذه الكفاءات، التي كانت في ذلك الوقت لا تزال مشردة وملاحقة بسبب قرارَي حل الجيش العراقي واجتثاث «البعث». وخلافاً لما يجري تداوله، فليس ضباط الجيش هم من أوصل البغدادي إلى ذروة التنظيم بل الأخير هو من نجح في إقناعهم بإيديولوجيا التنظيم، وجعلهم الذراع العسكرية التي يضرب بها، وبعض العارفين بشخصية البغدادي وقدرته على الإقناع يؤكدون ذلك.
ولكن هذا لا يعني أن البغدادي المعروف بمرونته (وهذا يخالف الانطباع السائد بأنه منعزل ومتصلب) لم يستفد من تقاطع المصالح بين تنظيمه وبين العديد من أجهزة الاستخبارات من أجل الحصول على مساعدات، أو إمدادات أو تسهيلات، من هذه الدولة أو تلك مقابل قيامه بخدمة مماثلة. وقد يكون مما له دلالته أن البغدادي أدخل تعديلات جوهرية على البنية التنظيمية لـ «داعش» حققت له المزيد من القدرة على الاستفادة من التناقضات الإقليمية والدولية واللعب على حبالها، كما أتاحت له مرونة كبيرة في العمل العسكري والأمني. وذلك من خلال تخصيص جيش شبيه بالجيش النظامي لخوض معارك جبهات، وبالمقابل الإبقاء على عنقودية الخلايا التي يمكنها الاستمرار في ممارسة حرب العصابات، وكذلك من خلال الفصل بين الجناح العسكري والجهاز الأمني، وإضافة جناح جديد هو الجناح الإداري. وقد تبدت هذه المرونة بشكل كبير من خلال قدرة التنظيم على الربط الاستراتيجي بين عملياته العسكرية في سوريا والعراق بالتوازي مع قدرته على الفصل تكتيكياً بينهما. والنقطة الأهم هي أن البغدادي لم يسعَ إلى جعل نفسه «قطب الرحى» بالنسبة للتنظيم، لذلك كان من الطبيعي ألا يؤثر غيابه في سير الأمور.
واليوم، ورغم الحملات العسكرية الكبيرة التي تُشن ضد معاقل التنظيم في كل من العراق وسوريا، يعتقد بعض المقربين من التنظيم أن البغدادي لم يُخرِج بعد كل ما في جعبته، وأنه ما زال يراهن على بعض أوراق القوة للخروج من المأزق الضخم الذي يحيط به. ويشير هؤلاء إلى «مفاجآت» قد يسمع بها العالم قريباً، وبعضهم يلمّح إلى أن العام 2016 قد لا يشهد نهاية التنظيم كما يتوقع الكثيرون، بل قد يكون عام إعلان التمدد إلى قارة جديدة تضاف إلى قائمة القارات التي تمدد إليها التنظيم، وهي آسيا وأفريقيا. ومع أن هذا الأمر أقرب إلى المستحيل في ظل الظروف الحالية، لكن من كان يتوقع عودة «داعش» من جديد بعد أن أكدت واشنطن أنها دفنته في صحراء الأنبار وخلّصت العالم من شروره، ليتبين بعد ذلك أن ما باعته للعالم لم يكن سوى أوهام.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد