التاريخية والعالم الذي لا تاريخ له
يطرح كتاب هيغل «فلسفة التاريخ» على نحو واضح مسألة تاريخية الشعوب «التاريخية»، في مقابل الشعوب التي لا تاريخ لها. ويبيّن في تقسيمه العالم الى قسمين أنّ القطيعة جذرية بين الشعوب التي تمتلك تاريخها التام امتلاكاً كاملاً، بفضل وعيها للتاريخ، وبين الشعوب التي ستكون محرومة من التاريخ حرماناً أبدياً.
هذا التقسيم للشعوب عند هيغل، لا يمكن فهمه إلاّ بالعودة الى الأفكار التي انتشرت مع اكتشاف جغرافية أميركا الطبيعية والبشرية. ففيما اعتبر المؤرخون كما تكتب الباحثة الفرنسية ميشال دوشيه في كتابها الذي نقلته الى العربية المنظمة العربية للترجمة تحت عنوان «تقاسم المعارف – الخطاب التاريخي والخطاب النياسي – «أنّ التاريخ هو «فنّ نقل الوقائع بالكتابة» اعتبر علماء الاجتماع أنّ هناك جزءاً آخر من تاريخ الإنسانية لم يكتب ويدوّن بعد، ولا بدّ من درسه. لذلك وجدت الإتنولوجيا، أو «النياسة» كما يسمّيها بعضهم بالعربية، وهي علم يعنى بدراسة المجتمعات التي لم تعرف الكتابة، والتي اكتشفها الغرب خلال توسّعه في العالم، كما يعنى بدراسة الطريقة التي تكوّنت بها هذه المجتمعات، واستقرّت وانتظمت وارتقت شيئاً فشيئاً، وتدريجاً لبلوغ الحضارة.
لم يكن التاريخ في القرن الثامن عشر كما يقول المؤرخ الفرنسي فرنسوا فورييه كما نعرفه اليوم ونكتبه، وإنما كان تاريخ الحضارة التي كانت تعني تمدين الذين يعتبرون عاجزين عن التحضر. ومن داخل هذه النظرة الإقصائية للآخر الذي يعيش من دون تاريخ لأنه لم يعرف الكتابة، نشأ مفهوم الوحشية والبربرية والانحطاط، وكانت الدعوة لاكتشاف الشعوب المتوحّشة وإخضاعها والسيطرة عليها، من خلال البعثات الدينية والعسكرية، ومن ثمّ غزوها واحتلالها واستعمارها انطلاقاً من مقارنتها بالمجتمعات الأوروبية المتمدّنة والمتقدّمة، وبمقاييس فكر الأنوار الذي صنّف الشعوب في صنفين: المتحضّرة والمتخلّفة.
يتفق الباحثون في علم الاجتماع على القول أن النياسة افترقت عن التاريخ وتوطّدت أركانها مع العالم الأميركي لويس مورغان الذي اكتشف قبل كلود لفي ستروس نظام القرابة أساساً لتنظيم المجتمعات البشرية، نظام هو بمثابة قواعد غير مكتوبة لدى الشعوب التي لا تقتني وثائق ومحفوظات، ولا ماضياً يمكن التأريخ له، نظام إذا ما أدركه النياسي أمسك بمبدأ استمرار تلك المجتمعات، ومبدأ تطورها.
ذلك أنّ نظام القرابة لا يتحدّد مرة واحدة وإلى الأبد، وإنما يتطوّر مع سائر البنى الأخرى.
إنّ التطوّر (وهو مفهوم يبحث عنه العرب منذ عصر النهضة) في نظر مورغان هو الحركة التي يصنع بها البشر تاريخهم من الحالة البدائية الى الحالة الحضارية المدنيّة، مروراً بسلسلة من المراحل الأخرى. والواقع أنّ مقولة التطوّر كما يرى بعض علماء الاجتماع، تنطوي على رأي واضح في طبيعة المجتمعات الإنسانية، وتشدّد على التغيّرات التي لحقت بها من غير الإعلان عن ذلك الرأي وصوغه بكلام واضح، فوتيرة التطوّر ومراحله يمكن لها أن تتغيّر، أماّ التطوّر عينه فلا، إذ أنّه القانون، والتاريخ مفتوح على التطوّر الى الأبد. علاوة على ذلك تلحظ التطوّرية تفاوتاً في المستويات بين المجتمعات، لكنّها لا تعزو ذلك الى أسباب عنصرية، أو الى عوامل ملازمة لطبيعة تلك المجتمعات الفطرية.
آمن مورغان بالتطوّر شأنه شأن داروين وروسو، لأنه كان يؤمن قبل كل شيء بتفوّق الإنسان الذي يغيّر الوسط الذي يحيا فيه بمقدار ما ينمو فكره، ويتطوّر عبر الاكتشافات والاختراعات، ويدخل مورغان ضمن توصيف المجتمعات التي بلغت هذه المرحلة أو تلك، توصيف الحياة المادية للبشر، كما يدخل توصيف حياتهم الاجتماعية، ويبرز تداخل العلاقات في ما بينها. فمن اختراع السهم الذي ميّز مرحلة البربرية، الى تقنية صهر الحديد التي تمثّل فكراً أكثر تطوّراً من مرحلة البربرية ثمّ في نهاية المطاف الى سكك الحديد التي تعلن انتصار المدنية، فالتقدّم الذي يبنى على الصناعة التي بدورها تتيح للفكر تطوّراً جديداً. ويوضح مورغان أنه لم يكن ممكناً للمدنية أن تظهر الى حيّز الوجود قبل اكتشاف الحديد واستخداماته المختلفة ومعنى ذلك أن المراحل والفترات والمدد ليست في نظر مورغان حصيلة تطوّر منتظم ومتناغم، أو نتيجة نموّ متواصل في الفكر البشري، بل هي نتاج مصادفات بحتة.
وبذلك دحض مورغان مبدأ الإقصاء والنبذ الذي ألقى خارج التاريخ مجتمعات كانت تعتبر أنها لا تتطوّر، فبقيت خارج التاريخ، لا وجود فيها لماضيها، ولا هي تأبه لمستقبلها.
كان لقراءة أنجلز لكتاب مورغان «المجتمع القديم» أثرها البالغ على الفيلسوف الألماني، من حيث سعيه للربط بين العائلة والملكية والدولة بوصفها معطيات لمسألة واحدة، هي مسألة الانتقال من نمط إنتاج الى نمط آخر، كما سعى الى تبيان، بوحي من كتاب مورغان، أنّ تاريخ المجتمعات البدائية الذي سعى مورغان الى كتابته، يتيح فهم التطوّر التاريخي في جملته، وفهم المدنية بوصفها شكلاً اجتماعياً ناجماً عن البربرية في آخر مراحل تطوّرها. لكن ما خالف أنجلز فيه مورغان هو أن التطوّر لا يمكن أن يحدث على البارد، وإنما من خلال ثورة يقوم بها الفكر البشري.
إن سبب الانتقال من مرحلة بدائية الى مرحلة أكثر تطوّراً، كما يرى أنجلز سببه اقتصادي: يحدّد نمط الملكية، وحقّ الوراثة الانتقال من شكل الى آخر، كما لإنتاج الثروات وتراكمها تأثيراً حاسماً على الممنوع والمسموح به من العلاقات وعلى الوضع القانوني للعائلة.. من الوحشيين الشاردين الى التجمعات المشاعية البدائية ومن العلاقات «الجديدة تماماً» التي ولدت مع تدجين الحيوانات، الى تربية المواشي وزوال حق الأمومة الناتج من تملّك الأراضي.
لقد اعتبر أنجلز فيلسوف المادية أن مورغان وفّق في كتابة تاريخ الأشكال البدائية للمجتمع، وذلك في إجابته على موضوعات كانت تثير أسئلة كبيرة عنده وعند الفلاسفة والمؤرخين وهي: ما المراحل التي مرّت بها المجتمعات المختلفة التي ما زال يمكن دراستها نياسياً؟ وما معنى تطوّر البشرية؟ كيف أنتجت الثروات على يد الشعوب المختلفة وفي المراحل المختلفة؟ وما هي الصلات التي يمكن إقامتها بين تكوّن العائلة في التاريخ القديم والملكية والأنظمة وبروز الدولة. ثمّ يضيف أنجلز أن مأثرة مورغان الكبرى تكمن في اكتشاف المكتوب قبل التاريخ، ورسم خطوطه الأساسية، وفي عثوره على أنظمة القرابة لدى جماعات هنود أميركا الشمالية، مفتاح الألغاز الأساسية التي كانت لا تزال الى ذلك الحين غامضة، في التاريخ الأفريقي والروماني والجرماني القديم.
كتاب ميشال دوشيه يؤكّد أن النياسة لم تعد علماً يدرس المجتمعات القديمة وحدها، وإنما يزوّد الباحث عن تطوّر المجتمعات الحديثة بنموذج للقراءة يساعده على فهم الكثير من القضايا التي هي محطّ تساؤل الباحث العربي حول أصلها وفصلها، كما يساعده على فهم أشكال من المعارف التي عرفها العرب سابقاً كعلم الأنساب والأعراق، وعلم القيافة والفراسة وغير ذلك.
موريس أبو ناضر
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد