الترجمة العربية في خطر؟
لعلهما كانا، خلال السنوات الفائتة، اثنين من أهم المشروعات الحضارية والثقافية العربية الجامعة التي استفادت، عن حق، من وفرة السيولة العربية في شكل أو آخر. هما مشروعا منظمة الترجمة العربية، ومقرها بيروت، والمركز القومي للترجمة في القاهرة. المشروع الثاني هذا ورث ذلك النشاط الهائل الذي قام تحت إشراف د. جابر عصفور حين كان رئيساً للمجلس القومي للثقافة، حيث حين تقاعد من منصبه ذاك، أسس المركز القومي للترجمة ليواصل عملاً إبداعياً كان ذا شأن كبير - ولا يزال - في نشر ثقافة العالم لدى نخبة القرّاء والمثقفين العرب، أما المشروع الأول فأسس في بيروت قبل نحو عشر سنوات تحت إدارة المفكر التونسي وعالم الاجتماع المعروف د. طاهر لبيب.
لن نتحدث هنا، كثيراً، عن الأرقام على رغم أهميتها (حيث أنتج المركز القاهري أكثر من 1200 كتاب حتى الآن، والمنظمة العربية ما يقارب المئة والخمسين عملاً)، ولن نتحدث عن مستوى الترجمة في شكل عام (من دون إغفال أن ترجمات المنظمة العربية أتت أكثر استيفاء لشروط النوعية والاختيار، ما جعلها أكثر نخبوية، بالطبع، من مثيلاتها في القاهرة)، ولن نقرظ تنسيقاً لم يحصل، للأسف، بين المشروعين. سنقول فقط إن العملين معاً عرفا، وكل على طريقته، تصاعداً في الفاعلية والجودة والنجاح، جعل لمرة نادرة في الثقافة العربية، وجوداً حقيقياً للكتاب المترجم. فقط نود أن نشير هنا الى أن استعراضاً لقوائم ما ترجم في المشروعين سيقول لنا، كيف أن المكتبة العربية صار لها أخيراً، وفي شكل منتظم، متن من أمهات الكتب الفكرية والفلسفية والاقتصادية والفنية، وحتى الأدبية والتاريخية، لم تعرفه من قبل. وعلى مستويات قد تكفي المقارنة بين كتب كانت ترجمت في الماضي وأعيدت ترجمتها الآن، لإدراكها - ونكاد نخص بالحديث هنا ترجمة أمهات الكتب الفلسفية، بما في ذلك أعمال لهيغل وكانط وسارتر وكثر غيرهم...
كان النجاح والتميز الفكريان واضحين حتى الآن، في معظم ما أنتج، إذاً. ولكن نعرف، في هذا المضمار بالذات، أن النجاح والتميز، لا يعنيان بالضرورة، أن الربح التجاري في الانتظار. فالكتب المختارة في معظمها، وبسبب طبيعتها، ليست مؤهلة - على المدى المباشر والقصير على الأقل - لأية مردودية مالية، حتى وإن كان بديهياً أنها مؤهلة لمردودية معنوية وثقافية وتنويرية هائلة. ونعرف طبعاً أن هذا هو الدافع الذي جعل كلاً من هذين المشروعين ينطلق من غايات غير ربحية، معتمداً على دعم مالي ضخم يؤهله للاستمرار في تأدية الرسالة. وعلى هذا النحو اعتمد مشروع المركز القومي في مصر على مبالغ، يقال إن السيدة سوزان مبارك كانت تؤمنها من خلال اتصالها سنوياً بكبار المتمولين المصريين، لا سيما المتنورين منهم. كما اعتمد مشروع المنظمة العربية على دعم مالي أساسي أمنه بعض الهيئات ورجال الأعمال العرب، وصولاً الى دعم وعد به أمير دبي، لإصدار خمسين كتاباً، بالإنفاق عليها...
لوهلة بدا أن مشروع ترجمة أمهات الكتب العالمية الى العربية يعيش في أحسن العوالم الممكنة. ولكن فجأة، وربما من دون سابق إنذار، وفي وقت راح المثقفون والمتنورون العرب يعيشون فرحة التغيرات الأخيرة، راحت الغيوم تتلبد في الأفق... على الأقل بالنسبة الى المشروع المصري، لأن حكاية المنظمة العربية مختلفة بعض الشيء. ففي مصر، حدث في وقت واحد أن سقط النظام، ما أسقط معه، بالطبع، دعم السلطة ممثلة بالسيدة مبارك، للمشروع. لكنه أسقط معه كذلك إشراف د. جابر عصفور عليه، إذ عيِّن وزيراً لأيام وهوجم ثم استقال ما أبعده حتمياً بالتالي، عن المركز القومي وجعل هذا المركز في مهب الريح (في أحسن الأحوال سيتحول الى مؤسسة عادية تابعة للدولة، قد تنتج، ولكن ليس على الزخم السابق نفسه، تبعاً لما يقول مسؤول ثقافي صديق في مصر، كما أن حرمانه من الموازنة السخية، سيحرمه من تعاون كبار المترجمين المصريين والعرب). يقيناً إن هذا المركز الطموح لن يعود، بعد جابر عصفور كما كان في أيامه.
أما بالنسبة الى «المنظمة العربية»، فإنها هي الأخرى مهددة الآن، ولكن لأسباب مالية فقط. ذلك أن الهيئات والأفراد الداعمين لها، أصيبوا الى حد كبير، ومنذ فترة بشظايا الأزمة المالية العالمية. ومن المعروف أن حين تصيب أزمة مالية نظاماً أو هيئة أو حكومة أو مؤسسة فإن الشأن الثقافي يكون الضحية الأولى. والأسوأ من هذا أن جزءاً كبيراً من دعم دبي الموعود «تقاعس» عن الوصول، ما أوقع المنظمة في ديون تكبح الآن من تحركها وتضعها هي الأخرى في مهب الريح. فما العمل الآن؟
لا أحد يعرف. ولكن في المقابل لا بد من أن نختتم بهذه الحكاية: خلال اجتماع لمجلس أمناء المنظمة العربية للترجمة، أخذ أحد هؤلاء على أدائها أنها تصدر كتباً نخبوية لا تحقق ربحاً، مقترحاً عليها تغيير النوعية لتأمين الأموال اللازمة! ترى لو كان في وسع هكذا مؤسسة تحقق عملاً فريداً من نوعه، أن تحقق ربحاً، هل كانت في حاجة لأن تكون مؤسسة مدعومة؟ أفلم يكن تجار الكتب تبنوها قبل غيرهم وحولوها الى مؤسسة تجارية... رابحة؟
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد