الثقافة الأمنية ودورة الاستبداد
لا تقوم دولة أمنية دون ثقافة أمنية حاضنة لها وراعية لمبادئها وضامنة لإعادة إنتاج مفرداتها وميكانيزماتها بصورة تلقائية آلية لا تحتاج سوى إلى قليل من التدخل والصيانة ليبقى كل شيء على حاله يُنتِج اللاشيء المزيّن بأضواء مبهرة. فالدولة الأمنية لا تنبني فقط على المؤسسة المخابراتية بفروعها المختلفة، ولا يكفيها أو يضمن استقرارها وجود حزب كثير العدد داعم للمؤسسة الأمنية، إنّما هي بحاجة إلى ثقافة أمنية بالمعنى الواسع للكلمة، ثقافة تقوم المؤسسات الرسمية والأهلية بإنتاجها، ولا يقتصر ذلك على المؤسسة التعليمية وإن كانت تشكّل القاعدة في بناء الثقافة الأمنية، إنّما يتعداها إلى جميع البنى لتغدو الثقافة الأمنية ممكنا وحيدا في ظل الاستبداد. فما هي أهم سمات الثقافة الأمنية ومظاهرها؟
يخيّل إليّ أننا لو تأمّلنا تجربة الثقافة السوفياتية، بوصفها مكونا رئيسا من مكونات منظومة استبدادية أم ذات تجربة قمعية فريدة، ومعها التجربة السورية كمنظومة (فرخة) من طبيعتها لأمكننا الوقوف على جملة من الصفات العامّة التي تسم الثقافة في ظل الاستبداد، والتي قد يكون من أهمّها:
أولا، هي ثقافة منفصلة عن الواقع وقضاياه، ثقافة تشتغل على قضايا تافهة وتصرف النظر عن القضايا الجوهرية.
ثانيا، هي ثقافة تجد فيها المثقفين يبحثون عن براءة ذمّة، بحثا ناجما عن وعي التواطؤ والصمت لتبرئة الذات أمام التاريخ على اعتبار أن يوما قد يأتي تُسأل فيه الثقافة عن دورها في الخراب ويُسأل فيه المثقفون عن دورهم في التعسف أو السكوت عنه. وهنا تقع على فهلويات في الكتابة وإشارة هنا وأخرى هناك إلى معارضة وهمية مع النظام المستبد وتفارق معه، وأمّا الإيهام بالوقوف في صف المعارضة فيحتاج إليه المشتغلون في الثقافة على اعتبار أنّ الأخيرة تُعنى، أو يجب أن تعنى، نظريا، بقيم الجمال والحق والعدالة والحريّة يحتاجون إليه كصك غفران أخلاقي. ذلك أن المعارضة في ظل الاستبداد المانع للسياسة موقف أخلاقي أكثر مما هي فعل سياسي، ناهيك عن أن طبيعة أفعال الاستبداد وممارساته تتعدى كل الحدود الأخلاقية، على الرغم من كل ما تتسم به مقولة الأخلاق من مرونة. ولذلك يكون لا بد من موقف أخلاقي من المستبد، يعدّ تلقائيا بمثابة فعل سياسي.
ثالثا، هي ثقافة راكدة وتعيد إنتاج الركود، ثقافة مستنقعات. ذلك أن الوظيفة الأمنية تقتضي قبل كل شيء استقرارا شكليا وتحويل كل شيء إلى مومياءات توحي بالحياة، لكنّها قلما تُعنى بالحياة. وأكثر ما تخشاه الأنظمة المستبدة هو التغيير. ولا يقتصر رُهاب التغيير لديها على إبقاء السياسات فقط على حالها بل والأشخاص. لذلك تجد شخصا شغل وظيفة رئيس اتحاد للكتّاب يعرف اسمه حتى باعة البسطات، ولا أقول باعة السجائر لأن للكثير منهم وظائف أمنية قد يكون من بينها تسجيل أسماء الذين يشتمون رؤساء الاتحادات وليس فقط اتحادات (المبدعين) التي أطلق عليها أحد الكتّاب الروس يوما تسمية (كولخوزات الوعي).
رابعا، هي ثقافة نابذة، تقوم على التضاد مع الحقيقي والجاد والجميل والحر والإبداعي وبالتالي فهي تنبذ ليس فقط المضامين بل والأشكال التي يمكن أن تفضي إلى حرية ليس للمنظومة الأمنية أن تقبل بها.
خامسا، هي ثقافة تدفع إلى السطح بأشباه المثقفين وبقليلي الموهبة والمفتقرين إلى القدرة على الإبداع.
سادسا، فهي ثقافة اشتغال على الكم دون الاعتناء بالنوعية، ذلك أن المعيار الذي تُقايس النوعية به معيار أمني، والمنهج الغربال منهج أمني قلّما يعنى بالضوابط الفنية أو المقولات الجمالية.
سابعا، وهي ثقافة تخوين، فكل ما هو غير مفهوم هو بالضرورة مثير للريبة والخشية ودافع إلى العداء. وبالتالي فهو يوضع تلقائيا في موقع التضاد والعداء، وكل من يقول به أو يدافع عنه غريب وعدو وخائن. فالثقافة الأمنية تتفحّص جيدا البعد السياسي لكل كلمة أو خط أو لون أو حركة أو أي تعبير ثقافي، وتستجيب له استجابة أمنية تصل حد إلغاء الفعل الثقافي وجعل حياة صاحبه مستحيلة.
ثامنا، فالثقافة الأمنية ثقافة عدوانية تضع نفسها، بحكم الشعور بالذنب، في موضع الدفاع عن النفس مع كل ما يعنيه ذلك من تحفّز وعدوانية، وهي ثقافة تعاني عقد الاضطهاد والتضييق والملاحقة، على الرغم من أنّ الاضطهاد وما يليه وظائف تتحقق بها من حيث هي أداة.
تاسعا، ثقافة انفعالية، محرّكها يقع خارجها، ويمكن أن يكون عسكريا أو حزبيا، ولكن ليس ثقافيا، وذلك لا يعني أن تعنى الثقافة بمشاكلها فقط وتشتغل على قضاياها، إنّما يعني أن تعالج كل شيء من منظور ثقافي وليس من منظور عقائدي أو عسكري أو أمني، أو منظور الولاء لأي من القوى الخارجية، خارج معايير الحقيقة والجمال والحرية. وهي، أي الثقافة الأمنية لا تشكّل رافعة لأي من الفعاليات الاجتماعية التي يمكن أن تفضي إلى غير الاستبداد.
عاشرا، وهي، بالضرورة، ثقافة تمجّد القبح وتتغنّى به، وترسّخ القيم التي يعمل النظام الأمني على نشرها، كاحتقار العقل والاستخفاف بقيم الحرية والحقيقة والجمال. وليعذرني القارئ على تكرار قيم الثقافة، كما أراها، التكرار الذي لا يأتي صدفة.
وبعد، فلا يخفى أن من شأن متفحّص حال الثقافة الأمنية أن يكتشف سمات أخرى، غفلت عنها هذه المطالعة، تكون بها الثقافة مكوّنا رئيسا من مكونات بنية استبدادية عامة. وليت فاعلية الاستبداد تقتصر على الاستجابة (الإيجابية)، أي على تلك البنية الثقافية التي تنصاع للبنية الأمنية وتتشكل وفق مقتضاها، فثمّة فاعلية تتعين بالتضاد، تبدو معها ثقافة الرفض مقلوب ثقافة القبول. فالاستبداد، من زاوية تضاده مع القيم التي يفترض أن يشتغل عليها الأدب والفن والإبداع عموما ويكون بها، يشكّل واحدا من أهم المعايير لفرز المثقفين. وهكذا تكون الثقافة في ظل الاستبداد قطبية، تدفع بالمشتغلين في الحقل الثقافي تلقائيا إلى أحد قطبين. فليس ثمّة مكان في ظل الاستبداد لمن هو بينَ بين. فإمّا أن تكون فاعلا ضد الاستبداد أو تكون معه بسكوتك عن استباحة قيم الحرية والحقيقة والجمال أو اشتغالك على ترسيخ قيم الاستبداد النقيضة. ومن شأن الفرز، وبالتالي الوقوف في موقف التضاد مع منظومة الاستبداد، أن يضخم وظائف الثقافة المعارضة ويزيد من حجم المسؤوليات الملقاة على عاتق المثقفين، ويسبغ على الإبداع، عموما، وظائف أخلاقية واجتماعية مباشرة، ويضعه أمام ضرورة البحث عن أدوات وأشكال وأساليب تلائم وظائفه التي تمليها عليه ضرورة تحققه بما هو فعل حرّية. ذلك أن الإبداع لا يكون دون حرية، وليس لقيمة أن تفوق قيمة الحرّية أهمية بالنسبة له، مما يضع المبدعين تلقائيا في صف معارضة الاستبداد. قد يقول قائل: ولكن للاستبداد مبدعيه أيضا! وهذا صحيح. بيد أن المعني هنا بمقولة (الحرّية) ليس حرية فردية وهميّة على حساب عبودية الآخرين، وليس حرية أن تكون ضد شعبك. غير أن الفرز القائم على أساس من المسؤوليات الاجتماعية والأخلاقية ثم السياسية لا يتيح لمن اختار الاشتغال ضد نظامٍ والعيش في حاضنته الاجتماعية والسياسية والأمنية معا أن يكون بمنأى عن أن يكون مقلوبا لمثقف أمني يشتغل لمصلحة النظام الأمني، من حيث أنّه، إلى حد كبير، يتعيّن بالتضاد معه، ويكون منفعلا به. وأمّا محاولة الخروج من مقلوب الصورة إلى صورة جديدة فيشكّل دافعا للبحث عن مواقع وأدوات وأشكال أو صيغ جديدة تتيح لصاحبها أن يكون حرّا. وأمثال هؤلاء يشار إليهم بالبنان، وتكون لهم فاعلية أكبر بكثير من طاقة الإبداع الكامنة في نتاجاتهم، من حيث أن الفاعلية تتأتى من طاقة الحريّة، لا من طاقة فنّية أو جمالية فقط.
وعموما، فإن الثقافة المضادة تتسم هي الأخرى في ظل حاضنة الاستبداد بجملة صفات قد يكون من أهمّها:
أولا، أنّها ثقافة أقبية، ثقافة ظل، تُنتج في الخفاء وفي ظل المنع. فكثير من الأعمال يطبع ويوزّع بآليات سرّية، لاستحالة حصوله على تراخيص رسمية، أو يقتصر نشره على قراءته في حلقة ضيقة من الأصدقاء.
ثانيا، هي ثقافة على درجة عالية من الرمزية. فالأشياء هنا تكتسب طبقات رمزية جديدة ودلالات خاصّة، وغالبا ما يكون ما بين السطور فيها أهم مما في السطور، وهي تستغفل الرقيب حينا وتغريه بالتواطؤ حينا آخر، من حيث أن كل رمز يحتمل قراءات مختلفة، لا بد أن يكون في واحدة منها طريق للخلاص من المسؤولية الأمنية.
ثالثا، هي ثقافة تتوخى البطولة. ففي ظل انتفاء إمكانية الفعل السياسي يصبح الحقل الثقافي حلبة لمنازلة النظام الاستبدادي، ومكانا وحيدا لتقديم مثال عن إمكانية معارضة غير انتحارية.
رابعا، هي ثقافة مأزومة من حيث هي تفتقر إلى حاضنة اجتماعية راعية وتفتقد إلى الضوء، وكذلك من زاوية تأزّم ثنائية: مثقف سلطة، وتضخّم البعد السياسي للفعل الثقافي، والانتقال من الثنائية الإبداعية: أنا الموضوع (أو المادة أو الأداة أو الشكل..) إلى: أنا السلطة (أو المؤسسة الأمنية) ومواجهة التحدي الصعب فنّيا، أو بالأعم ثقافيا، أي تحدّي البقاء خارج السجن، وكذلك من زاوية تأزّم ثنائية: أنا مجتمع. فالثقافة المعارضة للاستبداد، في ظل الافتقار إلى فعل سياسي معارض تنتظم حوله قوى اجتماعية تجد مصلحتها في مستقبل مغاير وفي ثقافة مغايرة، تلقى رفضا وإنكارا، ويلقى المثقفون المعارضون هجوما من جهات مختلفة ظاهرها ثقافي أو أكاديمي وباطنها عبودي أمني. ولا يغفل النظام الاستبدادي الأمني عن أهمية تعميق الأزمة بين الثقافة المعارضة والمجتمع برسم صورة متعالية للمثقفين وباعتبارهم مصدر الشرور والبلاء فإذا بالثقافة سبّة وإذا بالمثقّف يثير الخوف أو النفور أو الاحتقار وإذا به مجرد طبل فارغ لا يثير إلا القرقعة.. يساعد النظام الاستبدادي في ذلك عجز الثقافة المعارضة ومثقفيها عن فعل شيء في مجتمعٍ أعادت الثقافة الأمنية إنتاجه لصالح الخنوع واللامبالاة وانتظار اللقمة من ولي النعم.
خامسا، هي ثقافة يتراجع المعيار الإبداعي فيها إلى المرتبة الثانية لمصلحة المعيار الشخصي الذي يشغل الصدارة. فهنا حقل منازلة الذات من جهة والانتصار فيها على الخوف وإغواءات المصالح الشخصية والخلاص الفردي من جهة ومقارعة السلطة ومخاطر ذلك من جهة أخرى، وهنا تقايس الأشياء بمقاييس نفسية واجتماعية وأخلاقية إلى جانب المقاييس الفنية والجمالية.. فمن شأن كتاب يجاهر بالحقيقة أن يكلّف واضعه حياته بل وقارئه في بعض الحالات.
سادسا، فهي ثقافة تتضخم فيها أهمية الاشتغال على قيمة حريّة التعبير، وبالتالي حرية الاختلاف، بصرف النظر عن أهمية القول الممكن بذاته. فالأنظمة الاستبدادية بمؤسساتها المختلفة الأمنية والثقافية تجهد لجعل الجميع يفكّرون بطريقة واحدة، هي في الحقيقة طريقتها هي، وينتهون إلى الشيء نفسه، وتعمل بعناية لتكوين شخصية عامة تسبغ شخصيات الجميع هي الشخصية الأمنية فإذا بمن ينتصر لنفسه يكون قد انتصر تلقائيا للشخصية الأمنية التي هي هوية الدولة. ولذلك تكتسب المغايرة والاختلاف معنى إضافيا هنا، وتتضخم لتصبح قيمة مكتفية بذاتها. وهكذا يصبح الاختلاف بحد ذاته فعلا معارضا.
وأمّا من يقوم بفعل (ثقافي) معارض فليس عليه أن ينتظر المديح أو الثناء أو التكريم أو الشكر من أحد، بل عليه أن يكون مستعدا لتلقي حجارة الراجمين من أشباه المواطنين وأشباه المثقفين وأشباه الأشباه، وكدت أقول الأشباح، الذين يفقدهم توازنهم مجرد التفكير بفقدان هوية دولتهم الأمنية لأن من شأن ذلك أن يفقدهم شخصيتهم. «وأمّا الفيل فلا شخصية له على الرغم من كبر حجمه وثقل وزنه!» كما يقول الفيلسوف الروسي اليكسي لوسيف.
منذر بدر حلوم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد