الجينوم البشـري مقاربة جديدة
كان حلم علماء الوراثة، منذ الاعتراف بالحمض النووي DNA كحامل للمعلومة الوراثية، التوصل إلى فكّ رموز الجينوم، وذلك من أجل معرفة أسرار الحياة، على الأقل من الناحية النظرية. لقد بقي هذا الأمر شبه مستحيل لأسباب تقنية ومالية حتى زمن ليس ببعيد. لكن الاكتشافات التي حصلت في الآونة الأخيرة بيّنت أن عملية النسخ المعتمدة لنوع البروتين المزمع إنتاجه، لا تأتي نتائجها متطابقة حين تُكرّر.
يعتمد فهم التطورات الأخيرة في هذا الحقل على فهم لمسيرة طويلة قطعها العلماء، ونذكّر بأن الجينوم Genomes هو طاقم الموروثات البشرية أو غيرها، وهو يحمل المعلومات الوراثية المتعلقة بصاحبه وبنوع هذا الكائن، ويقع في الـDNA باستثناء في حالة بعض الفيروسات.
في العقود الأخيرة، اعتمد العلماء نوعين من المقاربة من أجل دراسة جينوم المخلوقات الحيّة، ولا سيّما الإنسان. المقاربة الأولى تقضي بتوزيع مهمة دراسة متعاقبات جينوم محدد في مختبرات عدة منفصلة، وتخصيص الميزانية الكافية له، والمقاربة الثانية ترتكز على القيام بجميع مراحل «التفكيك» ودراسة المتعاقبات الجينية في جينوم محدد داخل ما يُعرف بمراكز الجينوم الكبرى Genome Centers وقد سمحت هذه المقاربة بولادة تقنيات جديدة سهّلت عمل العلماء. لقد اكتُشف ودُرس عدد هائل من الجينوم منذ انطلاقة تطبيق هاتين المقاربتين. وجرت دراسة أول جينوم كاملاً عام 1991. وقع اختيار العلماء على مخلوقات محددة للبدء بها، نظراً لأهميتها في الزراعة أو لدورها في الصناعة، أو لتأثيرها على صحة الإنسان، مثل الأنواع المختلفة من البكتيريا والفيروسات كفيروس الإنفلوانزا والكلاميديا تريكوماتيس المسؤولة عن التهابات الرئة والأعضاء التناسلية وغيرها. ولقد رأى العلماء لفترة طويلة أن الجينات قادرة، في تسلسل محدد داخل كل واحد منها أطلقوا عليه اسم الشيفرة الجينية، على إنتاج بروتين واحد ذي دور محدد. لكن في الآونة الأخيرة، وبعدما بدأ العلماء بدراسة المخلوقات المركبة مثل الإنسان، وبعدما سمحت التقنيات الجديدة باكتشاف مناطق تتخلل الجينات، ولا تحمل أي معلومات مشفّرة وتُعرف باسم الـ introns، تغيّرت الصورة تماماً. لقد تبيّن للعلماء أن عملية النسخ المعتمدة، التي تسمح لـ«ساعي البريد» الـ RNA بتجاهل الـ introns و«تصوير» الـ exons فقط حاملات الشيفرة المحددة لنوع البروتين المزمع إنتاجه، لا تأتي نتائجها متطابقة عند تكرارها أبداً. لقد بيّنت الدراسات أن جزءاً مختلفاً من المعلومات الموجودة داخل الشيفرة يجري تجاهله، لسبب ما، في كل مرة تبدأ عملية إنتاج بروتين جديد انطلاقاً من الجين ذاته. هذه البروتينات ذات المصدر الجيني الواحد تُعدّ «جينات شقيقة» وتُعرف باسم isoformes. لقد رأى العلماء في البداية أن هذه الظاهرة نادرة لدى البشر والمخلوقات المرضعة، ثم اكتشفوا بعد مرور عشر سنوات أنها تمثّل 50% من عمليات إنتاج البروتينات لدى الإنسان، وارتفع بعدها هذا العدد بفضل دراسة أميركية نُشرت عام 2003 إلى 74%. وقبل مدة قصيرة أدّت نتائج أبحاث فريق علماء من الولايات المتحدة الأميركية من معهد ماساشويتس بقيادة كريستوفر بيرج وفريق آخر من كندا من جامعة تورونتو بقيادة بينجامين بلينكو إلى إثبات أن 94% من عمليات إنتاج البروتين انطلاقاً من جين واحد لا تعطي البروتين عينه. من أجل التوصل إلى هذا الكشف استخدم العلماء في كلا الفريقين أنزيم transcriptase inverse الذي يقوم، كما يشير اسمه، بعملية عكسية لما يجري عادة داخل جسم الإنسان، حيث يساهم هذا الأنزيم في بناء الـ DNA انطلاقاً من الـ RNA، وهكذا يمكن معرفة الجزء من الشيفرة الذي جرى تجاهله، وبالتالي يصبح من الممكن معرفة أي isoforme من البروتين سوف يُنتج.
لقد أجرى الفريق الأميركي تجاربه على عشرة أنواع مختلفة من الأنسجة، وخمس مجموعات من خلايا الأورام المستخرجة من عشرين شخصاً. أما الفريق الكندي فقد قام بدراسته على مجموعة من ستة أنسجة مستخرجة من الدماغ والكبد والعضلات والرئة. وكانت الاستنتاجات القائمة على النتائج واحدة، أن البروتين يختلف رغم وحدة المصدر الجيني بحسب الأنسجة أو الأعضاء التي يكون فيها، كما يختلف خلال عملية النمو من مرحلة إلى أخرى، مثل الانتقال من حالة الجنين إلى الحالات الأخرى، ضمن النسيج الواحد. كما تختلف البروتينات المنتجة في خلايا الأورام عن تلك المنتجة في الخلايا في حالتها الطبيعية. أمام علماء الوراثة والجينات طريق طويل افتتحته هذه الحقائق، حيث لم يعد كافياً بعد اليوم معرفة الجين لمعرفة البروتين الذي سوف ينتج وما الأمراض التي قد يكون سبّبها، لا سيّما أن دراسات الفريقين التي نُشرت في Nature et Nature Genetics قد أكّدت أن البروتينات ـــ الشقيقات أو الـ isoformes تختلف أدوارها بعضها عن بعض، إلى درجة التناقض في معظم الأحيان.
غادة دندش نجار
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد