الحرية المقدسة
جاء رجل الى النبي (ص) فشكا اليه الجوع، فبعث رسول الله (ص) الى بيوت ازواجه، فقلن: "ما عندنا الا الماء"، فقال رسول الله (ص): "من لهذا الرجل الليلة؟" فقال علي بن ابي طالب (ع): "انا له يا رسول الله" فقال (ع): "ما عندنا الا قوت العشية، لكنا نؤثر ضيفا". فقال (ع): "يا ابن محمد نوّمي الصبية، واطفئي المصباح". فلما اصبح علي (ع) غدا على رسول الله (ص) فأخبره الخبر، فلم يبرح حتى انزل الله عز وجل الآية القرآنية المباركة "ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون".
سلام الله عليك يا سيدي، امامي وقدوتي يا امير المؤمنين، يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيا (هذه الايام ايام ولادة امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) حيث ولد في الثالث عشر من شهر رجب في بيت الله الحرام، داخل الكعبة الشريفة).
قيم عالية ذات مفاهيم خالدة يحذرنا من السقوط في الرغبات التي توصل بصاحبها الى حفرة سوداء مظلمة من الآثام والمحرمات، ولا يتوقف الامر على السقوط في الاثم والحرام، بل ينعكس سوءا واندثارا وهلاكا على مستوى الامة والجماعة، كما في الرواية عن رسول الله (ص): "يوشك ان تتداعى عليكم الامم تداعي الأكلة على قصعتها"، قال قائل منهم: "من قلة نحن يومئذ؟" قال (ص): "بل انتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن"، قال قائل: "يا رسول الله وما الوهن؟" قال (ص) "حب الدنيا وكراهية الموت".
الرغبات القاتلة والشهوات المستحوذة المسقطة التي تحول امة قوية الى قصعة منهوبة تمزقها وتقطعها الانياب، تكمن في السقوط بدوائر الهوى المفرط الذي يحول الحكام اباطرة مهزومين، والناس الى وحوش مفترسة تأكل بعضها بعضا، ينخرها الهوان والضعف الى مستوى دني ومتداع، واما اشكال السقوط فمختلفة وعديدة، ومعالم الهوان متنوعة واصناف الانحراف لا تحصر. فحذار حذار مما يسقط من رغبة باطلة، او انحراف عن الضوابط، او صدام مع القيم والاخلاق والاعراف.
يؤكد امير المؤمنين (ع) على امر هو في كل زمن، في غاية السمو والرفعة، قائلا (ع) لك ايها الانسان: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا".
هذه من اعظم كلمات لأمير المؤمنين (ع) يركز فيها على ضرورة الحرية الناصعة بحقائق الاشياء كما هي، اي الحرية النظيفة، الحرية الخالية من الشبهات، الحرية التي لا تطمسها ضبابية او عبودية مرتزقة او منافع سلطانية، الحرية التي تعني إبطال اي قيد مغشوش، منع اية عقبة لا قيمة وجودية لها، ابطال اي قانون لا يتماشى مع منطق السماء.
فالحرية جزء اساس من قيم استخلاف الله تعالى للانسان على الارض، وهذا يعني ان خلافا عميقا موجودا بين الحرية في الشريعة والحرية في الحضارات والقوانين ذات النزعات المادية، فالحرية في الاخيرة توجيه لها باعتبار انها مفتاح لاشباع الرغبات الدنيوية بحدود سقف الضرورات وفق الصيغة الاجتماعية. في حين ان الحرية المقدسة بمعيار الشريعة هي حقوق وموجبات وقطع المراحل وتجاوز العقبات وعبور القناطر، وصولا الى غايات الكمال الذي يبرز في ساحة القيامة عند مفترق طريقين، اما الكمال العظيم في جنة الفردوس والنعيم، واما الخسران المهلك في نار وجحيم.
لذلك اوصانا امير المؤمنين سلام الله عليه بوصايا كثيرة هي بمثابة سياسة احترازية دفاعية ووقائية من جهة، واستباقية تدبيرية من جهة اخرى، منها في قوله (ع): "تلافيك ما فرّط من صمتك ايسر من ادراكك ما فات من منطقك وحفظ ما في الوعاء الوكاء (الرباط). وحفظ ما في يدك احب الي من طلب ما في يد غيرك. ومرارة اليأس خير من الطلب الى الناس. والحرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور. والمرء احفظ لسره، ورب ساع في ما يضره. قارن اهل الخير تكن منهم، وباين اهل الشر تبن عنهم. ظلم الضعيف افحش الظلم. واياك اتكالك على المنى فانها بضائع الموتى، بادر الفرصة قبل ان تكون غصة، ليس كل طالب يصيب ولا كل غائب يؤوب"...
الشيخ أحمد قبلان
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد