الشعر السوري الجديد بين نظرة رسمية وأخرى نقدية
يظهرُ أن ثمة عرفاً جديداً في كتابة مقدّمات المختارات الشعريّة، يبتعد من الشّعر ذاته باعتباره فنّاً ويذهب رأساً نحو نقيض الفن، أي الكلام الذي لا يعوّل عليه. هذا هو حال مقدّمة «ديوان الشعر العربي في الربع الأخير من القرن العشرين» الخاصّة بالشعراء السوريين، التي صدرت في سلسلة «كتاب في جريدة» لشهر تموز (يوليو) المنصرم. فلا شيء يبرّر التقديم للشعر السوري بالاعتذار عمن أُغفل عن المشهد، كأن يقول معدّ المختارات ومقدّمها الشاعر شوقي بغدادي: «ما من شك في أنها كانت مهمة شاقة، فسورية حافلة بالشعراء، وفي حدود صفحات كتابة في جريدة يبدو أن إرضاء الجميع غاية لا تدرك».
يشفّ الكلام السابق عن أزمة ثقافية لا تخصّ العمل الإبداعي ذاته – وهو الشّعر هنا - بل تخصّ العلاقات بين الشعراء قبل أي شيء آخر، ذلك أنّ عدد صفحات «كتاب في جريدة» يربو عن الثلاثين وهي من القطع الأكبر من الكبير أصلاً. زد على هذا أن مقارنة بسيطةً بريئةً بين هذه المختارات التي تضمن انتشاراً واسعاً، وملف خاص بالشعر السوري «ثمة أغنيات تحرّك الماء» الذي أعدّه وقدّمه نديم الوزة في المجلة الفصلية المصرية «الشعر» الصادرة (العدد 130)، كفيلة بدحض اعتذار «شكلي» مماثل. فالملف المذكور موجود في دورية من القطع الصغير، وعدد صفحاته ثماني عشرة صفحة، كُرست خمس منها لتقديم الشّعر السوري بطريقة لافتة، لأن نديم الوزة يدرك تماماً دور المقدّمة الأساس في التعريف بالشعر السوري أو بصورة أدق في تسليط الضوء على هواجس هذا الشّعر والمسارب التي تفلّت منها والطرق التي اختطها وما إلى ذلك من أمور تقدم للقارئ معلومات رئيسة قد تنجح في تحفيزه لقراءة هذا الشعر ضمن إطاره الصحيح.
مقدّمة نديم الوزة للشعر السوري هي الصورة الأنصع لما يجب أن تكون عليه مقدّمات المختارات الشعرية، ذلك أنها تنجح في واحدة من أهم وظائف النقد: التبويب والتصنيف. فقد استطاع الناقد أن يظهر العلاقات الشعرية بين الأجيال الشّعرية السورية، وأن يبيّن كيف أن «قلق التأثير» - إن استعرنا عنوان كتاب الناقد الأميركي هارولد بلوم - أي تأثّر الشعراء بعضهم ببعض، وكتابة الشعر من خلال رؤى متقاطعة تارةً ومتوازية طوراً، متقاربة حيناً ومتباعدة حيناً آخر، هو ما يعطي الشعر في مكان وزمان محدّدين خصوصيته. ومن أجل إظهار شبكة الاقتراحات الشعرية التي يدور في فلكها الشّعر السوري، لا يتورع نديم الوزة عن إطلاق الأحكام المبرمة التي تشف عن ذائقته الخاصّة كمتابع دؤوب للشّعر السوري. وأحد هذه الأحكام المبرمة مثلاً: «بمعنى آخر قد لا يبدو منذر مصري سليل المثقفين العرب وأشعارهم المضطربة بين أصالة مواهبهم ورغبتها في الانعتاق، التي تمثّلت بأبهى تجلياتها في قصائد محمّد الماغوط وأنسي الحاج، وإنما ارتضتْ أن تكون انعكاساً لما هو مترجم... ولذلك بدت قصائد منذر مفكّراً بها وليست نتاج ذات شاعرة». وبقطع النظر عن رأي الناقد العارِف، فإنّ ربط تجربة منذر مصري بإطارها العربي هو ما يعطي المقدّمة صدقيتها أوّلاً، فتمنح القارئ مفتاحاً رئيساً لمعرفة تجربة منذر بصورة أفضل ثانياً.
فضائل مقدّمة نديم الوزة كثيرة، وربما من أهمها تسليط الضوء على تجربة الراحليْن رياض الصالح الحسين وعبداللطيف خطاب، وهما من أكثر الشعراء السوريين حضوراً شعرياً، الأمر الذي يمكن لمسه من خلال «إعجاب» الشعراء الآخرين بتجربتهم. فمن أهم سمات الأوّل وفقاً لنديم الوزة أنها «لا تستجدي الواقع أو الحياة أو حتّى الفكرة بقدر ما تأخذ كلّ ذلك مجتمعاً إلى بساطتها وعفويتها ودهشتها». ويضرب مثالاً على قوله بـ: «يا سورية الجميلة السعيدة / كمدفأة في كانون/ يا سورية التعيسة / كعظمة بين أسنان كلب/ يا سورية القاسية / كمشرط في يد الجراح/ نحن أبناؤك الطيبون الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك/ أبداً سنقودك إلى الينابيع/ أبداً سنجفف دمك بأصابعنا الخضراء/ ودموعك بشفاهنا اليابسة/ أبداً سنشقّ أمامك الدروب/ ولن نتركك تضيعين يا سورية/ كأغنية في الصحراء». أمّا الثاني، أي خطّاب، فيتميّز بـ «مقدرته الشّعرية ونفاذ بصيرته إلى ما هو راهن وينبغي قوله. وربما أكثر ما أهلّ تلقائيته في فعل ذلك، كان إنصاته العميق لبيئته، استقراءً وفهماً وشفافيةً من غير ادعاء ولا مبالغة... وربما استطاع بذلك أن ينأى بقصيدته عن مواطنه سليم بركات».
المشهد السوري لا يستوي من دون سليم بركات، - لذا فلا شيء يبرّر اعتذاريات شوقي بغدادي المسبقة التي أغفلت سليم بركات و» أبو عفش وممدوح عدوان مثلاً - إذ فضلاً عن أصالة تجربته وجمالها الباهر الباذخ، فإن دوره يفيض عن مجرد الاقتراح الشّعري ويذهب فوراً باتجاه التأثير العميق لدى مجايليه ومعاصريه على حدّ سواء، على نحوٍ يمكننا القول إن تأثيره يتخطى تأثير الشعراء العرب المكرسين. ويعود ذلك بالطبع إلى صلابة خياراته وقوّة خياله، فضلاً عن تمكّنه من أدواته الشّعرية إلى حدّ الإتقان. من هنا، فإن اختيار أي قصيدة لسليم بركات يفتحُ المشهد السوري على الشّعر العربي الحديث بصورته المشتهاة: «آن يتخذّ سيّاف الغيب كمالاً ككمال الظلام، وتركعُ الريح الأسيرة، تغرورقُ عيناك، يا هادئاً ترى الذي ترى، وتكفيك من الأبد قضمةٌ واحدةٌ، فلماذا تأسى للوقتِ».
وبقدر ما تشتّتُ مقدّمة شوقي بغدادي الشعر السوري الحديث، تلمّ مقدّمة نديم الوزة اقتراحاته المتنوعة، فتجيء النصوص المختارة لتعبّر عن خصوصيته، والأهم عن نضارته، إذ إن الشعراء هنا ينتمون إلى جيلٍ شعريٍ واحدٍ لا يعترفُ بالتحقيب الكلاسيكي، كأن نقول شعراء السبعينات أو الثمانينات من القرن الماضي... إلخ، بل يعترف بالهواجس الشّعرية الراهنة التي تلغي الحدود بين الشعر السوري والشعر العربي الحديث، وتُظهر أن الأمر لا يرتبط إلا بأصالة موهبة الشعراء.
وضمن هذا المنظور، يصبحُ السؤال عن حجم تمثيل شاعرٍ ما سؤالاً نافلاً زائداً، كما يصبح السؤال عن غائبٍ ما أقل صدقيّة، فقد خفّفت مقدّمة نديم الوزة من الأثر السلبي لـ «ضيق» الصفحات عن استعياب العدد الكبير، من خلال وضعِ مقاطع من قصائدهم فيها، وكذلك من خلالِ تسليط الضوء على تجاربهم الشعرية وعلى موقعها في المشهد السوري وإضافاتهم إليه.
المقارنة بين مختارات نديم الوزة ومختارات شوقي بغدادي توحي للقارئ بوجود ذائقتين: رسمية ونقدية، ولا يحتاج قارئ الشعر ليعرف أيهما تظلم الشعر السوري وأيهما تنصفه، فمختارات نديم الوزة لا تكتفي بإنصاف الشعر السوري من خلال مقدّمة ممتازة عارفة بخبايا الشّعر وخفاياه، بل هي تفتحُ شهية القارئ على قراءة هذا الشّعر. أمّا مختارات شوقي بغدادي فتثير الغبار لفرطِ الغائبين عنها، فضلاً عن غياب الشّعر نفسه عن مقدّمتها، كما أنها تثير العجب، إذ يحضر فيها الشاعر السوري ذو النفس «الغنائي الغرائبي» ماهر شرف الدين - الذي يغيبُ باستمرار عن مختارات الشعر اللبناني على رغم إقامته في بيروت - منبتاً، ويبدو أن حضوره يرتبطُ فقط بالإعلان عن جريدته الجميلة «الغاوون»، والغريب أن الجريدة المذكورة لا تدخل إلى سورية.
ديمة الشكر
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد