الطب الروحاني سيرة ومسيرة
قد يبدو للوهلة الأولى أن الحديث حول مثل هذا الموضوع أمر غريب بعض الشيء، خاصة أننا نعيش في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث التطور العلمي والتقني العالي، وانفجار المعلومات غير المسبوق في تاريخ البشرية.
لكن سرعان ما يتبدد استغرابنا عندما نعلم أن هذا النوع من الطب سائد في أكثر الدول تقدما، ليس في مجال الطب وتقنياته فحسب، بل في مختلف ميادين العلم وحقول المعرفة.
تعود فلسفة "الطب الروحاني" المعاصر إلى المفكر والفيلسوف السويسري بالمولد، الألماني بالنشأة، رودلف شتاينر (1861-1925م) الذي لمع صيته بعد تحريره لأعمال غوته العلمية في أواخر القرن التاسع عشر.
وما إن دخل القرن العشرون حتى بدأت مبادئ وأفكار شتاينر تتطور بطريقة قواعدية سريعة وممنهجة، خاصة في مجالي البحث العقلي والنفسي.
فكان أن ظهر لأول مرة في تاريخ أوروبا الحديث ما اصطلح عليه بـ"العلم الروحاني" أو ما يحلو لأصحابه تسميته "علم الأنثروبوزوفيقيا"، فتأسست أول عيادة تستقبل وتعالج المرضى بالطب الروحاني في سويسرا، سنة 1912 على يد الطبيبة الهولندية إيتا ويغمان (من تلامذة شتاينر، التي التقت به في عام 1902م وتعلمت منه الكثير).
ثم سرعان ما أخذ هذا النمط الجديد من الفلسفة العلمية والعملية في الطب بالنمو والتطور يوما بعد يوم، خاصة قبيل وبعيد الحرب العالمية الأولى، إلى أن أخذ يتبلور على هيئة وصورة عمل دينامكي منظم في كل من سويسرا وألمانيا، حيث ظهر العديد من الحركات العلمية والعملية القائمة على وجهة النظر الروحانية.
ومنها: "حركة كامفل لرعاية المعاقين عقليا وحركيا"، و"حركة الديناميكا الحيوية في علم النبات والحيوان"، ثم "حركة والدوف في مجالي التربية والتعليم" وغيرها.
في عام 1924، أي قبيل وفاته بعام، أسس شتاينر "المجمع الانثروبوزوفيقي العام" وكان أول من ترأسه، ومع الزمن أصبح لهذا المجمع العديد من الفروع المنتشرة حول العالم، خاصة في أوروبا وأميركا الشمالية.
وكان هذا الفيلسوف والمفكر قد طاف قبل وفاته بالكثير من المدن الألمانية والعواصم الأوروبية مخاطبا الجماهير والتجمعات الفكرية والعلمية، بغرض التعريف بفكره وفلسفته.
وفي المحصلة ترك لمن يرغب في الاطلاع على أعماله أكثر من مائة وخمسين عنوانا مترجمة إلى لغات عدة، أهمها الألمانية والإنجليزية.
ومن أشهر تلك العناوين كتابه: "فلسفة الحرية" أو ما يعرف أيضا بـ"فلسفة النشاط الروحاني"، و"علم القوى الخارقة" وكتاب "معرفة العوالم العلوية" وغيرها مما لا يتسع المجال لوصفه أو حتى مجرد ذكره وسرده.
وحسبي من التعريف بمؤسس الثورة الروحانية في كل من ألمانيا وسويسرا أن أقدم الطب الروحاني كنموذج طبي رائع ورائج في بلاد قد بلغت فيها الحسية المادية أقصى ذروتها، ليس في ألمانيا وسويسرا فحسب، بل في أوروبا كلها وما عرف بالعالم الجديد، خاصة كندا والولايات المتحدة الأميركية.
الطب الروحاني عبارة عن اتجاه طبي شمولي تكميلي Complementary يبحث في أسباب الصحة أكثر من بحثه في أسباب المرض، إذ يؤمن أصحاب هذا الاتجاه بأن عوامل الصحة كامنة في الإنسان المريض ذاته وفي محيطه البيئي، وبأن مواجهة المرض ومحاصرته ماديا لا تكفي للتخلص من المرض وتحقيق الشفاء والصحة.
كما يفترض القائمون على هذا الاتجاه الطبي المعاصر أن إثارة الإنسان ماديا ومعنويا لتجاوز تلك العوامل المسببة للحالة المرضية هو ما يقود بالفعل إلى الشفاء والتحرر من المرض.
تحت بعض الشروط والظروف -خاصة عندما لا يكون بالإمكان دعم مناعة الجسم لمواجهة ومقاومة المرض- يصبح من الضرورة العمل على تجاوز أعراض الحالة المرضية من خلال اللجوء إلى العديد من الوسائل والأساليب الموضوعية والذاتية، كاللجوء إلى الطب التقليدي ووسائله وأساليبه المختلفة أو اللجوء إلى الجراحة المعهودة إذا تطلب الأمر.
وبعد الانتهاء من ذلك يأتي دور "الطب الروحاني" ليرمم ويتمم عمل الطب التقليدي والجراحة، وهو ما يجعل منه امتدادا للطب التقليدي، ومكملا له لا بديلا عنه.
وكطب يؤمن أصحابه بالتعامل مع العوامل المتعددة سواء كانت أسبابا علاجية أو أسبابا مرضية ذات طبيعة نفسية واجتماعية ومعيشية وكيميائية وفيزيائية وغير ذلك، فإن الأمر يحتم على أصحابه استخدام العديد من الإمكانات والخيارات المتعددة ذات الصور والأشكال المختلفة عند مواجهة الحالات المرضية.
ومن تلك الخيارات اللجوء إلى وسائل وأساليب العلاج النفسي والاجتماعي والاقتصادي والكيميائي والفيزيائي على اختلافها، وأحيانا اللجوء إلى خيار علاج المريض بما هو مسبب للمرض، وهو ما يعرف طبيا بطريقة "الهوميوباثي"، وهو نهج طبي متأصل في كل من الهند والصين والعديد من البلدان الأوروبية وعلى رأسها سويسرا وألمانيا الاتحادية.
عندما يكون الخيار نفسيا أو اجتماعيا يدخل في ذلك خيار المعالجات الدينية القائمة على صور وأشكال العبادة المختلفة، فتوفير غرف خاصة للعبادة وتوفير ما قد يحتاج إليه المرضى وزوارهم من رموز تتعلق بخصوصيات نمط صلواتهم وشعائرهم التعبدية، يساعد المرضى على تجاوز محنتهم المرضية.
وهذا هو المعمول به في العديد من المستشفيات العالمية ومنها على سبيل المثال لا الحصر، مستشفى "ألانلاكس العام" في مدينة بومبي الهندية الذي يرفع شعار "خدمة الإنسانية خدمة للرب"، وهناك مستشفى "الغيماينشافتسكرانكنهاوز" في هيردكا الألمانية.
كما أن المجال يبقى مفتوحا لمن يريد أن يعبر عن نفسه من خلال الأساليب الفنية المختلفة، ومن خلال كتابة السير الذاتية المتعلقة بالمريض ومسيرته الحياتية، وكل ما قد يساعده عادة في إعادة رسم صورته وشخصيته ومكانته كما يتمنى لنفسه ويحب ويريد، وهو ما يؤدي بدوره إلى حالة من النمو والارتقاء في عالم الذات والمحيط.
"الطب الروحاني" لا يعني أبدا أنه باب مفتوح على مصراعيه لكل من يرغب بالولوج فيه ويدعي أنه قادر على التشخيص والعلاج وتحقيق الشفاء للناس، دون تعليم أو تدريب أو تأهيل.
كلا، إنما يتطلب الأمر أولا التخصص في مجال ما من مجالات الطب التقليدي، أي الحصول على شهادة في الطب، ثم التخصص والاهتمام في أي من مجالات واهتمامات "الطب الروحاني" ووسائله وأساليبه في التشخيص والتطبيب والعلاج.
ويكفينا أن نعلم بأن هذا النوع من الطب أضحى يمارس اليوم في أكثر من 60 دولة خاصة في أوروبا وأميركا الشمالية وفي كل من أستراليا ونيوزيلندا.
ففي مدينة هيرديكا الألمانية يوجد اليوم واحد من أضخم المستشفيات الألمانية التي تهتم بموضوع "الطب الروحاني"، وهو مستشفى يعالج الكثير من الأمراض، وعلى رأسها الأمراض العقلية والنفسية وأمراض القلب والسرطان وغيرها.
كما أن هنالك مراكز وعيادات طبية روحانية في كل من ميدستون وكنت ودانبي ووتباي ولندن وستوكبايشوب وبريستول وورسيسترشير، وتوينريدج وستراود وغلوس وهوليوود وداون وبيلدسايد وأيردين، وجستفت ريدج في نيويورك وأوكس في كاليفونيا وآن أيبر في ميشيغان، وغيرها من مدن وحواضر العالم الغربي.
وبحكم تجذر وتأصل هذا النمط من الطب صار له اليوم العديد من الاتحادات والجمعيات والروابط والمنتديات، الفكرية والعلمية والعملية، من أهمها: الاتحاد العالمي لجمعيات الطب الروحاني – IFAMASS ومقره سويسرا وألمانيا، والاتحاد الأوروبي لجمعيات مرضى الطب الروحاني الذي يضم في عضويته إحدى عشرة دولة أوروبية، وكل من جمعية أطباء الطب الروحاني في الولايات المتحدة الأميركية، والرابطة السويسرية للأطباء الروحانيين.
هذا هو واقع ما يسمى بـ"الطب الروحاني" المعاصر في ألمانيا الاتحادية وسويسرا وغيرهما من دول العلم وحواضره، وهو طب مع الزمن قد يتأهل لأن يكون بديلا للطب التقليدي في تلك البلاد وغيرها، في الوقت الذي مازال فيه الطب في بلادنا يراوح مكانه، وهو مقيد بأنظمة وقوانين تحاصرها أطر التشخيص والعلاج المادية لا غير.
الطب الروحاني متأصل وموجود هنا وهناك في مدن وحواضر العالم المتقدم، وكأننا لا نعلم ولا نسمع ولا نرى، بل وكأن أسلافنا أمثال ابن سينا والفارابي والرازي والزهاوي والزهراوي وابن حيان وابن رشد وغيرهم، لم يكونوا روادا وأصحاب باع طويل في مثل هذا النوع من الطب العريق الذي يليق بإنسانية الإنسان وكرامته كمخلوق يدخل في تركيبته ما يدخل من عناصر المادة والروح!
ترى ألم يسطر أسلافنا أمثال شيخ الفلاسفة والحكماء العلامة ابن سينا وحده كتابا ضخما في الطب التقليدي والروحاني معا في مليون كلمة؟
ألم ندرك بعد أن "قانون الطب" لابن سينا قد دُرِسَ ودُرّسَ في مدارس ومعاهد أوروبا خاصة في ألمانيا أكثر من أربعمائة سنة، وأن القوم هناك وفي أماكن أخرى قد استفادوا مما فيه وأضافوا عليه وعلى غيره أكثر مما فعلنا؟
أنا لا أدعو إلى أخذ الأمور عن غيرنا جملة وتفصيلا دون عقل أو نقد أو إضافة أو تكييف لما يناسب طبيعتنا وثقافتنا ونمط حياتنا، كلا ثم كلا.. إنما ألفت الانتباه إلى أمور يجب علينا أن ننتبه إليها اليوم قبل غد.. ليس إلا..
علينا أن نعلم بأن الأمور من حولنا في الطب وفي غيره في حالة تغير ديناميكي مستمر وفي حالة نمو وتطور لا تعرف السكون والثبات.
علينا أن نشمر عن أذرعنا ونشارك في إنتاج العلم والمعرفة لا أن نبقى مجرد تابعين ومشترين وبائعين ومستهلكين.. كفانا سكونا وجمودا.
ويبقى سؤالي، متى يعود حكماؤنا وعلماؤنا بثوب عصري وجديد إلى طبهم الروحاني الأصيل، ويخرجون لنا كما خرج الألمان والسويسريون وغيرهم لأنفسهم طبا يشهد له المرضى قبل أن يشهد ويروج له القائمون عليه من أطباء ومختصين؟
متى نجد ونجتهد علميا وعمليا في ضوء دروس وعبر الماضي، ومعطيات ومتغيرات الحاضر لنصير من صناع الغد والمستقبل؟
متى نؤمن حقا ونعود إلى قرآننا العظيم وسنة نبينا الكريم (صلى الله عليه وسلم) أعظم مصدرين طبيين روحانيين لنستخرج منهما ما نستطيع من مبادئ الطب والحكمة في التشخيص والعلاج لتحقيق الصحة والرفاه؟
ألم يقل لنا الله تبارك وتعالى: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين" (الإسراء: 82).
ترى هل سنقر ونعترف بعجزنا ولهاثنا وراء غيرنا، ونهم ونقصد ونقرر ونغير ونبدل ونعدل في الأمور ومجرياتها، أم سنبقى على ما نحن عليه اليوم، جمهور من الحملة النقلة، يقرر لنا ويغير ويبدل ويعدل بين الفينة والأخرى، ومن حين إلى حين، ولو بعد حين؟! هذا ما نتركه للأيام لنرى ماذا يصنع لنا.
وائل مصطفى أبو الحسن
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد