الفن التاريخي والقصص القصيرة.. بيار ميشون، رسم التاريخ بقلمه

21-10-2011

الفن التاريخي والقصص القصيرة.. بيار ميشون، رسم التاريخ بقلمه

"هل تجيد رسم الآلهة والأبطال، أيها المواطن الرسام؟ نحن نطالبك برسم مجلس الأبطال. أرسمهم وكأنهم آلهة أو وحوش، أو حتى وكأنهم رجال، إذا كنت ترغب بذلك. أرسم "مجلس السنة الثانية الكبير". مجلس الأمن العام. وافعل به ما تشاء: قديسون، طغاة، لصوص، أمراء". هكذا، حسّ برولي الرسام فلوراتان بطل رواية "الإحدى عشر" Les Onze لبيار ميشون على القيام بعمله الفني، وهو يشدد على قيمة الرسم وأهميته في ترسيخ لحظة تاريخية في المخيلة الجماعية. بات إذاً فلورانتان يتحمل مسؤولية إنتاج لحظة تاريخية هامة من خلال إبداعه، عليه أن يخلق الأسطورة الخالدة من خلال جمالية الفن. حازت هذه الرواية ذات البعد التاريخي والجمالي، التي نشرت عام 2009، على جائزة Grand Prix du roman de L’Académie Française "الجائزة الكبرى للرواية من الأكاديميا الفرنسية". وقد برع ميشون من خلال كتاباته في المزج بين الواقع والخيال في هذه الرواية الرائعة. انطلق الروائي من الواقع التاريخي ليتفجّر إبداعه على أجنحة خيالٍ إزدان بالألوان التاريخية. تخيّل الكاتب رساماً من عصر الثورة الفرنسية وهو فرنسوا-إيلي كورانتان. عاش هذا الرسام في منطقة الليموزين الفقيرة خلال حقبة الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر. يروي الكاتب سيرة هذا الرسام؛ طفولته وارتقاءه الاجتماعي، حتى بات فناناً هاماً.
طُلب من كورانتان أن يرسم في لوحة فنية الأحد عشر عضواً الذين شكلوا لجنة الأمن العام سنة 1794، فانبثقت عنها حكومة الرعب، وهم بيلو، كارنو، بريور، بريور، كوتون، روبيسبيار، كولو، بارير، لينديه، سان-جوست وسان-أندريه. في سياق هذه الكتابة التاريخية، عرض الكاتب تفاصيل حول كلّ من هذه الشخصيات: "كان روبيسبيار يمثل شخصياً حقوق الإنسان"، "بيلو وكولو، متحمسان وتصرفاتهما غير متوقعة"، "بيلو-فارين، الذي كان في ما مضى من فارين كما كان كورانتان من لامارش؛ وكانوا يطلقون عليه اللامتسرولون إسم روسان من أكاردي وذلك لأنه كان أصهب ويحب الأناكريون؛ بيلو، الذي ألّف أوبرا مورغان"، "كارنو، الذي كان وروبيسبيار جزءا من جمعية الشعراء روزاتي داراس، وبدأ يحب روبيسبيار ويكرهه خلال مسابقة الشعراء الشبان لدى روزاتي؛ وبلغ الشهرة للمرة الأولى حين تلا قصائد ريفية لباخوس، ليبار، بونوم والآلهة الرومانيين الصغار"، "بريور، ضابط وشاعر رثائي لا مستمعون له في ماكون وبريور، الآخر، محامٍ وشاعر ملحمي لا مستمعون له في شالون"،"كولو، الذي يمكن أن نعلّق عليه حتى يوم غد؛ وهو كان من هاربوا كما كان كورانتان من لا مارش؛ كان يعمل في المسرح، ممثلاً، مخرجاً، وكأنه موليار الثاني؛ كتب ما يقارب خمسين مسرحية". وهكذا، يبرز الروائي شخصيات اللوحة كأفراد، قبل أن يسرد قصتهم على المستوى التاريخي. ويبدو وكأنه يشدد على البعد الثقافي لكل من هذه الشخصيات رابطاً إياهم بمجمل أشكال الفنون. إذ أن في هذه الرواية الفن والتاريخ السياسي يترابطان ويتداخلان.
وهكذا، من خلال هذه اللوحة المعروضة في متحف اللوفر، يبرز خلود اللحظة التاريخية بواسطة الفن، إذ أن في أحد مقتطفات هذه الرواية يبدأ الكاتب بطرح سؤال على متأملي اللوحة الفنية. هو يتوجه اليهم لأنهم حين يتعرفون على هذه اللوحة ويمعنون النظر إليها، فهم يساهمون بجعلها أسطورة. يتوجه الكاتب للقراء من خلال عبارة "أسياد"، وهو يكرر هذه العبارة في كل الرواية. إذاً، هو يوجه بهذه الطريقة الكلام لكل من يتأمل اللوحة ويتعرّف عليها، فتصبح جزءا من ذاكرته، هؤلاء هم من ساهموا في جعل اللوحة جزءا من التاريخ: "هل ترونهم، يا أسياد؟ إنهم أحد عشر، من الشمال الى اليمين: بيلو، كارنو، بريور، بريور، كوتون، روبيسبيار، كولو، بارير، لينده، سان-جوست، سان-أندريه. ثابتون ومستقيمون. أعضاء المجلس. مجلس الرعب الكبير. أربعة أمتار فاصل ثلاثون لثلاثة، وأقل من ثلاثة بقليل. لوحة فانتوز"، "هل ترونهم؟ لا يسهل علينا أن نراهم كلهم بنفس الوقت الآن، مع هذه الانعكاسات على الزجاج الذي وضعناهم خلفه في اللوفر. يتحدون محنة الرصاص، يتحدون نفس عشرة آلاف رجل على وجه الأرض الذين يرونهم كل يوم. إنما هم هنا. ثابتون ومستقيمون". وهكذا، يبرز الكاتب ثبات اللحظة التاريخية من خلال ثبات تلك الوجوه الخالدة عبر التاريخ، رغم مرور الوقت. وبالفعل، من خلال هذه اللوحة الفنية الرائعة، رسخت هؤلاء الشخصيات في الذاكرة. إنه الفن التاريخي الذي يقاوم عبور الزمان. تمرّ السنون والعقود والقرون، وتبقى اللوحة لتذكر الإنسان بأهم المتغيرات التي عرفها تاريخ بلاده.
ومن ثم يتطرق الروائي الى تاريخ فرنسا: "تلك الحقبة التاريخية التي شكلت ذروة التاريخ، والتي أطلق عليها بالضبط اسم الرعب، في نهاية الشتاء، الربيع وبداية الصيف"، "كذلك كانت الطبقات الاجتماعية منقسمة الى أحزاب، إذا شئنا: كان جزء منهم أريستقراطيا، مختبئا وفعالا؛ البورجوازية الكبيرة والصغيرة؛ البروليتاريا؛ أي أهل الليموزين"، "في فندق المدينة في ساحة الغراف، كانت تزعق كومونة باريس التي بلغت السلطة بفضل فصائل الأحياء"، "لجنة الأمن العام، التي كان عليها أن تحتفظ بالسلطة المطلقة أو تموت". وهكذا، انطلق الروائي من هذه اللوحة الوهمية ليشرع بتناول تاريخ فرنسا بشكل واقعي. إنه التاريخ الحقيقي الذي أسس من خلاله الشعب الفرنسي لكيانه وهويته. وبالفعل، شكل التاريخ جزءا من هوية الشعب الفرنسي. وهكذا، تعبر كتابة ميشون من البعد الجمالي الى البعد التاريخي، ومن التاريخ الى الجمال، لينتج عنها عمل أدبي رائع يتواصل مع كل الأبعاد الإنسانية.
وأجمل ما يبرز في هذه الرواية التاريخية هو الخيال الفني، خيال الرسام المُبدع. بالفعل، يعرض الروائي تفاعل خيال الرسام مع الأحداث التاريخية في بعض المقتطفات. فبات التاريخ مصدر وحيٍ لهذا الفنان: "تسأل كورانتان للحظة عن مكان العظام القديمة للقديستين اللتين استشهدتا، تحت الأرض في كومبلو. ومن ثم فكر بالفتاة الصغيرة، التي كانت بلا شك خائفة في تلك الساعة في الكوخ. اختلط كل ذلك لمدة طويلة، بالعظام، العجائز والفتاة الصغيرة. ومن ثم فكر بالنساء الأخريات، اللواتي توفين وهُجرن وغِبن. ومن ثم كفّ عن التفكير". يدخل إذاً الروائي في فكر الرسام، في ديناميكية الصور والألوان التي تتفاعل في مخيلته. إنه الفن التاريخي، الذي يستمد وحيه من التاريخ ومن ثم يصنع التاريخ بدوره. إذ أن اللوحة التي تجسد لحظة تاريخية هي إعادة إنتاج لهذه اللحظة بشكل جديد. وبالفعل، إن الرسام، الكاتب أو المخرج الذين يعالجون أحداثا تاريخية يعيدون خلق هذه الأحداث على طريقتهم الخاصة. وبالفعل، تخيّل الكاتب هذه اللوحة لانه يعتبر أنه كان يجب أن تكون موجودة، وهو بذلك يملأ فراغاً في التاريخ الفرنسي.

الرسم والسياسة
في هذا السياق، يتطرق الكاتب الى دور السياسة في الرسم: "غالباً ما يحصل ذلك، في الرسم، حين يُبرز السياسة من خلال رجال بغاية البساطة: لأن الآراء لا يمكن رسمها؛ إنما الأدوار، فبلى"، "لا تُبرز لوحة الأحد عشر التاريخ، إنما هي التاريخ. إن ما رآه ميشوليه في آخر جناح النبات قد يكون ربما التاريخ بنفسه، لأن التاريخ هو ذعر محض. ويجذبنا هذا الذعر كالمغنطيس. وذلك لأننا بشر، يا أسياد؛ والبشر، من فوق الى تحت، المتعلمون والفقراء، يعشقون التاريخ بشغف؛ أي الذعر، المجازر". وهكذا، أدرج الكاتب الفن في الحركة السياسية الجماعية. فتلك اللوحة هي التاريخ بعينه، إنها تجسيد لهذه اللحظة التاريخية، هي إذاً بالنسبة للخيال الجماعي باتت تمثل هذه اللحظة التاريخية، وليست صورة عنها. فمن هو المسيح؟ أليس المسيح هو ذلك الوجه النقي والطاهر الذي نراه في فيلم زيفيرلي؟ وهكذا، يكون زيفيرلي قد أنتج صورة للمسيح باتت هي المسيح بنفسه بالنسبة لنا نحن المشاهدين. إذاً الفنان ينتج صورة تصبح هي التاريخ بنفسه. لذلك، يشبه الكاتب الرسام بالخالق: "هل تبتسم، يا سيدي؟ ألا تصدق؟ أجل، كل ذلك أجمل من أن يُصدق: الفنان، أليس كذلك؟ الخالق – الذي يريد أن يصدق أن كل هذه القوى، والذي يصدق فعلاً، أن الفعل الذي نتحكم من خلاله بهذا العالم، الفعل الجدير بهذه التسمية، يستند ويتمحور حول الإدراك المحض، السحر إجمالاً، أي إرادة الفرد السحرية".
وهكذا، ينطلق الكاتب طوراً من اللوحة ليستطرد على المستوى التاريخي، وطوراً يروي قصة حياة الرسام. فتتمازج حركة التاريخ الجماعية بالمصير الفردي، ويتعانقان لينتجا عالماً رائعاً من الجمال. يدرك بيار ميشون أن روايته اكتسبت طابعاً تاريخياً وسياسياً، وهو يقول في هذا الصدد أنه لا يفضل أي طرف سياسي. كما أنه يضيف أن رأيه مزدوج بخصوص "الرعب"La terreur الذي يعجز عن إدانته. ولن يثنيه الإلتزام الحالي بمعاداة الإرهاب عن الإعجاب بهؤلاء الرجال. وبالفعل، قد أطلق أحد الأدباء على عنف حكومة الرعب اسم "العنف الإلهي". كما يعرض الكاتب في هذه الرواية العلاقة بين الفن والسلطة. في هذا السياق، باتت هذه اللوحة رمزاً لعظمة الثورة، أو رمزاً لتسلط دموي ومجنون. على المستوى السياسي، إن بيار ميشون شديد الارتباط بالبروليتاريا، إذ أنه يشعر أنه ينتمي الى الشعب منذ الولادة، بما أن ذكرياته ومشاعره تنبعان منه. وهو ينتمي بعمق للشعب، "البروليتاريا"، الذين يطلق عليهم اسم "الليموزين" في روايته. بالاضافة الى ذلك، يشدد الكاتب على العلاقة بين الفكر والتحولات التاريخية، إذ أنه يعتبر أن الجميع اكتسب روحاً ثوريةً عشية 1789، وبشكل خاص الطبقة الأريستقراطية بفضل قراءة كتابات الفلاسفة والمفكرين.
وأجمل ما يلفتنا أن الكاتب يروي القصة وكأنه يرسم. فاكتسبت كلماته جمالية اللون، وتزيّنت جمله برونق المشهد. وهو يقول في هذا الصدد أن الرسم أكثر فعاليةً من الكلمة، لأنه يعرض الأحلام بصفائها، وهذا ما تعجز الكلمات عن تحقيقه. ويضيف الكاتب أن الرسم هو مرئي، نهائي وثابت، وتلك ليست حال الموضوع الروائي، الذي لطالما تفاعل مع خيال كل من القراء الإرتجالي. لذلك، نلاحظ أنه يصف في روايته جمالية الألوان وتفاعلها مع النور: "معطف من لون دخان الجحيم"، "القناة تنعكس عليها كل السماء"، "شاهدوا كيف تتغير الانعكاسات على الزجاج حين نتحرك قليلاً"، "وحده نور المصباح الكبير المربّع وقع منتصباً على الذهب"، "كانت الوجوه في العتمة"، "لون ذهبي فاقع، ينتشر وراءه، يتمازج معه"، "وذلك قبل أن يرقص الذهب والكبريت الأصفر، الأزرق، الأبيض، الأحمر، الألوان الثلاثية للجمهورية الواحدة وغير القابلة للتجزيء في العتمة، لتنهض هذه الألوان بهدوء من أعماق الليل". هكذا، يبدو وكأن خيال الكاتب تمازج مع خيال الرسام بهدف بلورة عمل أدبي مميز تحاكي فيه الألوان الكلمات. اختلطت إذاً ريشة الرسام بقلم الكاتب، ليبرز عالم أدبي رائع يحرّك خيال القارئ الذي يكاد يرى الوجوه المرسومة من خلال قراءته. برع إذاً الروائي في خلق جو تلامس فيه الكتابة فن الرسم. وبالفعل، لطالما كان فن الرسم جزءا من كتابات ميشون الأدبية. وقد برع ميشون في مزج الكتابة والرسم بفضل أسلوبه الخاص المليء بالشاعرية حتى أنه كاد أن يكون شعراً نثرياً، إذ أن لكل جملة موسيقتها الخاصة. ويقول الكاتب في هذا السياق أن كتابته بصرية. وهو يتمنى أن ينبع منها رؤى للقراء. هو لم يكف عن رؤية اللوحة التي رسمها كورانتان، إنما لم تكن في كل مرة نفس اللوحة بل هي تتبدل. لذلك، لم يصفها فعلاً بشكل دقيق. فالقراء يعرفون أسماء ووجوه الأحد عشر شخصاً المرسومين في اللوحة، وليس عليهم سوى أن يتخيلوا هذا المشهد التاريخي كلّ على طريقته الخاصة. ولطالما كان الرسم موضوعاً لأدب ميشون. ففي روايته "حياة جوزيف رولين" La vie de Joseph Roulin (1988)، روى ميشون قصة حياة ساعي البريد الذي رسمه فان غوغ ست مرات، ومن ثم تناول مصير هذا الفنان البائس ونجاح لوحاته الباهر بعد موته. كما تناول هذا الكاتب في عدة روايات على غرار "الأسياد والخدم" (1990) و "ملك الغابة" (1996) مجموعة من الرسامين مثل غويا، واتو، لورانتينو دازيرو وغيان دومينيكو.
السارد وشخصيته
لم يكتفِ بيار ميشون بسرد قصة الرسام ولوحته، ولكنه أنتج كذلك عملاً أدبياً تجري أحداثه على مستوى أكثر فرديةً. نعرض في هذا السياق عمله الأدبي Vies Minuscules "حيوات صغيرة" (1984)، الذي نشره ميشون عن عمر 37 سنة حين بدأ حياته الأدبية، وهو يتضمن سلسلة من القصص القصيرة لشخصيات عاشرها الكاتب في طفولته، ثم التقاها لاحقاً خلال تسكعه. وقد تشبه هذه القصص السير الذاتية، وهي ليست اعترافاً، إنما محاولة لاكتشاف مصير كاتب. عام 1984، حازت Vies Minuscules على جائزة "فرانس كولتور"Prix France Culture. في هذه المجموعة من القصص القصيرة، يروي الكاتب حكايات كل هؤلاء الشخصيات متطرقاً الى الارتباط بالطبيعة، التناقد البشري ووجع الكتابة. إنما من هم هؤلاء الشخصيات الذين عُرضوا في تلك القصص؟ أندريه دُفورنو، أنطوان بالوشه، أوجين وكلارا، الأخوة باكروت، الأب فوكو، جورج باندي، كلوديت والميتة الصغيرة. وقد خصص الكاتب فصلاً لكلّ منهم. تبرز حياة الكاتب في هذه القصص القصيرة، إذ أنه يذكر في كتاباته عائلته والأماكن التي عاش فيها. وبالفعل، ولد بيار ميشون في شاتُلوس-لو-مارشي في لا كروز في منزل أجداده في 28 آذار 1945. ربّته والدته المعلمة بعدما هجر والده البيت. أمضى ميشون طفولته في موريو، وتعلّم في ليسيه غيري حيث كان طالباً داخلياً. ومن ثم درس الأدب الفرنسي في كلارمون-فيرّان حيث خصّص رسالته لأنطونين أرتو. التحق بفرقة مسرحية صغيرة وسافر في كل فرنسا.
في عمله الأدبي "حيوات صغيرة" Vies Minuscules، يتطرق الكاتب الى موريو حيث قضى طفولته، وذلك في القصة القصيرة "حياة جورج باندي": "مرّت هذه الفصول في موريو وكأنها حلم"، "قدمت ماريان مرةً الى موريو، في بداية فترة إقامتي فيها، في آذار، وكان الطقس جميلاً"، "في موريو، تغيّر جحيمي". أما في القصة القصيرة "حياة أندريه دفورنو" فيتناول الكاتب قصص شخصيات من عائلته كجدّته. وفي "سير حياة الأخوة باكروت"، يروي الكاتب قصة حياته حين كان طالباً داخلياً والتقى برامي باكروت. وهكذا، نتعرف من خلال سيرة الروائي الذاتية على رامي باكروت؛ "كان رامي باكروت، الأصغر، صديقي في الصف. كان إنطوائيا بابتهاج، ولكن هذه البهجة غالباً ما كانت تتصدع فيبرز عمقاً من اللامبالاة البلهاء"، "كان رامي يدرك جيداً منذ الصف الثاني أن شيئاً ما كان موجوداً تحت فستان الفتيات"، "أمضيت عطلة عيد الميلاد في موريو؛ قال أحد أفراد المجموعة أن رامي مات؛ فذهبت مع ماترو الكبير بسيارته 2CV الى المأتم". وهكذا، يحكي الكاتب أحداث حياة هذا الشخص الذي عرفه من طفولته حتى موته وبعد موته: "اقتربت الساعة، لم يسمعها رامي تدق، فكرنا به؛ وضعنا قلنسوته على الطاقية الزرقاء فارتجفت الريشة الحمراء والبيضاء لتوحي بأن روحاً صغيرةً قد رحلت". هكذا، ودّع الروائي رامي الذي عانق الموت وغاب. وتنتهي هذه القصة القصيرة بعبارة مليئة بروحية رومنسية: "وأنا وحدي هربت، كي آتي إليك وأخبرك بذلك". أما أحداث قصة "حياة الأب فوكو" القصيرة فتجري في كلارمون-فيران. إن هذه القصة القصيرة مليئة بالمشاهد المؤثرة: "ارتميت على سريري، طالباً الغفران من ماريان، كنت أرتجف وأنا أداعب هذا الوجه العزيز الذي زادتني أوجاعنا تعلقاً به". ومن ثم يتناول الروائي الشخصية الأساسية: "كان الأب فوكو أفضل مني كأديب"، "على غرار الأب فوكو، كنت أجيد ألا أمتلك شيئاً؛ إنما، على غرار مهاجمي، كنت أريد أن أحظى بالإعجاب؛ أن أعيش مع هذا العدم بنهم، شرط أن أختلس الفراغ من خلف غيمة الكلمات". هكذا، نلاحظ أن مختلف الشخصيات هي مرآة حال السارد: "وأخيراً في أحد أيام 1947: من جديد الطريق، الشجرة، السماء هنا وشكل الأشجار الذي ارتسم في الأفق، الحديقة الصغيرة المليئة بالقرنفلات. يلتقي بطل الرواية بسارد السيرة الذاتية تحت شجرة الكستناء، إنما كما يحصل دوماً، لم ينجح اللقاء: ما زال كاتب السيرة الذاتية في المهد ولم يحفظ أياً من ذكريات بطل القصة؛ أما البطل فلم يرَ في الطفل سوى صورة لماضيه الخاص". وفي القصة القصيرة "حياة أنطوان بيلوشه"، يتماهى السارد مع الشخصية الأساسية: "على غراري، تبع أنطوان الطفل أهل بيته". ونلاحظ في هذا السياق التفاعل بين الشخصية والروائي وكأن قدراً ما جمعهما: "اختفى آل بيلوشه في القرن الماضي؛ كان آخر فرد منهم، حسب معرفتي، أنطوان بيلوشه، الابن الأبدي والناقص بشكل أبدي، الذي حمل معه اسمه بعيداً وأضاعه. هذا الاسم المهمول، أوصلته إلي بعض الذخائر". إذاً اكتسب وجود هذه الشخصيات ضمن السير الذاتية بعداً هاماً. في هذه القصص القصيرة، تداخلت أحداث حياة السارد مع قصص تلك الشخصيات ليعبّر الروائي عن نفسه من خلال قصص الآخرين.
بالإضافة الى ذلك، نشر بيار ميشون عدة أعمال أدبية، ومنها Rimbaud le fils "رامبو الابن" (1991) حيث عالج الكاتب علاقته برامبو. يتضمن هذا الكتاب مجموعة من النصوص الصغيرة حول مصير أرتور رامبو. أما في عمل بيار ميشون الأدبي "يأتي الملك حين يريد" Le roi vient quand il veut (2007)، وهو عبارة عن مجموعة من المقابلات، فقد عرض الكاتب نظرته للأدب وأهدافه الأدبية، وعبّر عن شغفه بالأدب. وهو يتكلّم في هذا الكتاب عن النشوة النابعة عن اكتشاف النصوص الأدبية الهامة، ذاكراً في هذا السياق فلوبير، فولكنير ومالفيل. ومن أبرز ما قاله ميشون في هذه المقابلات: "كل كاتب يقف لوحده في مواجهة الوجد بكليته، من دون دعم". كما أنه نشر عمله الأدبي "أمبرطور الغرب" L’Empereur d’Occident (1989)، بالاضافة الى La Grande Beune (1996) الذي فاز بجائزة لوي غيو عام 1997، وMythologies d’hiver "ميثولوجيا الشتاء" (1997). عام 2004، حازت كل أعمال ميشون الأدبية على جائزة SGDL de Littérature. وهكذا، تكلّلت أعمال بيار ميشون الأدبية بالنجاح بفضل خياله الواسع وأسلوبه الرائع وفكره. إذ أن أدب ميشون تجاوز الوظيفة الجمالية، ليكتسب منحاً فكرياً وفلسفياً عميقاً.

منير أبو زيد

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...