القطط التي تلعق ثنايا الدماغ الناعمة
كتاب هاروكي موراكامي الأخير مجموعة قصصية تلخص مسيرة ربع قرن، وتبرز تأثره الأميركي الشمالي (ريموند كارفر وسالنجر) واللاتيني (بورخس) والأوروبي (كافكا). استغرب نقاد اليابان جاذبيته في الغرب التي تجاوزت كنزابوري اوي الحائز نوبل الأدب ويوكيو ميشيما الذي بهر القراء بانتحاره. «غابة نروجية» التي صدرت في 1987 منحته شهرة نجوم السينما ولم يعترف نقاد بلاده به جدياً حتى التسعينات. موراكامي ليس يابانياً بالمعنى الذي يمثله ميشيما أو أوي. مرجعه حضارة غربية تجمع الموسيقى الكلاسيكية (ماهلر وديبوسي) بالجاز وبوب ديلان و«ذي دورز» وتبرز فيها الكوكا كولا لا الشاي والهامبرغر لا الرز أو السوشي. تقدم الكثير من نقاده في العمر، وهو يخصهم في «الصفصافة العمياء، المرأة النائمة» الصادرة بالإنكليزية عن دار هارفل سيكير بقصة شامتة تجعلهم غرباناً مقعدين يقتلون أقرب الناس إليهم.
لغة موراكامي البسيطة لم تشفع لدى النقاد. ليست لغة أدبية تشير الى جهد أو خيال غير عادي بل نثر عادي يصور أدق الأفعال البشرية. على أن تسطح الحياة اليومية يفتح عالم الشخصيات فجأة على أحداث غريبة من خارج العالم. يجعل نفسه شخصية مثل الأميركي بول أوستر، وإذ تخبر الشخصيات الراوي السيد موراكامي قصصها تتحداه ان يفهم معناها لكنه يعجز غالباً. المجموعة انتصار للنزوة التي تجعل الشخصيات تقع فجأة في حب شخص غريب أو تترك كل شيء لتسافر الى اليونان مثلاً.
ينام الرجال مع نساء غريبات صامتات، ويحس أحدهم أن ذات الحقيقة ميتة تأكلها القطط التي تلعق «ثنايا الدماغ الناعمة» يظهر شبح راكب أمواج برجل واحدة، وتتسبب مكالمات غامضة بنوبات قيء لا هوادة فيها. تحفل المجموعة بالقرود الناطقة وأبطال كاراتيه مدمنين على العنف، على ان الأحداث الخارقة تساعد الشخصيات أحياناً على اكتشاف حقائق كانوا أخفوها عن أنفسهم.
تخلو قصة «يوم كامل الأوصاف للكانغارو» من دلالة واحدة الى معناها. ينتظر الراوي وصديقته تحسن الطقس شهراً ليذهبا الى حديقة الحيوانات ويشاهدا مولوداً من الكانغارو. تخيب الصديقة عندما تكتشف انه كبر في شهر واحد الى حد لم يعد معه طفلاً. لكنهما لا يلبثان ان يكافآ برؤيته يدخل الى الجيب في بطن أمه ولا يظهر منه إلا طرف أذنيه وذنبه. تتناول القصة ثنائية الصورة والواقع، والتوقعات والحقيقة خصوصاً عندما تتعلق بالسعي والانتظار.
كان يشاهد يوماً مباراة في البيسبول عندما «ظهر» له مصيره ككاتب. بعدما أغلق بار الجاز «بيتر كات» الذي يملكه أمسك القلم وحاول الكتابة. لم يكن الكتاب الأول تجربة سهلة. عصت عليه الكتابة باليابانية فكتب بالانكليزية التي كانت مفرداته بها محدودة، وبعد بضع صفحات ترجم ما كتبه الى اليابانية. هكذا ولد أسلوب موراكامي ما بعد الحداثي الذي يجمع البساطة مع اقتصاد أبطاله الأدبيين الأميركيين وواقعيتهم. يبهره تنقل الأفكار بين اللغات، ويترجم قصصه من اليابانية الى الانكليزية فاليابانية ثانية. انتظره النجاح منذ روايته الأولى «اسمع الريح تغني» وبعد عامين فقط من الكتابة باع «بيتر كات» واستطاع التفرغ للأدب. باع كل من كتبه الأربعة الأولى مئة ألف نسخة، ولم يكن ذلك رقماً مميزاً في اليابان الى ان ضربها بـ «غابة نروجية» التي باعت بجزءيها تسعة ملايين نسخة حتى الآن. روى فيها قصة حب تقليدية بين طالبين في السبعينات، وإصابته فجأة بنعمة الثروة ولعنة الشهرة. «لم أرغب بالشهرة، وأحسست يومها ان الناس يكرهونني، إنهم لا يحبونني كاتباً أو شخصاً». خسر الكثير من أصدقائه وأصيب بالكآبة فغادر الى أوروبا التي كوّن فيها قاعدة كبيرة من الأنصار ثم أميركا. كان يزور بلاده في 1995 عندما هجمت جماعة «أوم شنريكيو» بغاز السارين على محطة قطارات فقتلت اثني عشر شخصاً وأصابت الآلاف بأعراض مرضية. أمضى عاماً يقابل أعضاء الجماعة والضحايا وكتب «أندر غراوند» أول كتبه غير الروائية وأحد أفضلها. تكرر فيه موضوع مفضل لدى موراكامي. العنف الخفي الذي يتسلل الى مجتمع يبدو سعيداً ومسالماً، كاليابان المسكونة بتاريخها العسكري العنيف، ويشتته فجأة.
بقي منذ ذلك الهجوم في بلاده لأنه «واجبي ككاتب» لكنه عرف انه لن يكون حراً في اليابان أو خارجها. يبدو متمرداً على حضارته لكنه واحد من اليابانيين المصابين بالالتزام القهري. ينهض في الرابعة فجراً ليكتب ويسبح ويركض ثم يترجم بعد الغداء ويكتب مقالاً عن الموسيقى غالباً. يتناول العشاء مع يوكو التي تزوجها خلال دراسته الجامعية وينام التاسعة مساء. أغضب زواجه والديه، وفي إحدى رواياته تصوير للشلل الذي أصابها من التوتر خلال زيارة لهما. موراكامي البالغ السابعة والخمسين يبدو أصغر من عمره، ويرى العالم يقترب باطراد من عالمه الروائي: «أكثر فوضى وسوريالية وخطراً».
و تعرض «مولع بالحب» منذ أكثر من شهر على مسرح أبولو – لندن، للممثل الأميركي سام شيبارد الذي كتب أكثر من أربعين مسرحية، ومجموعات قصصية، ونال جائزة بوليتزر عن مسرحيته «الطفل الدفين» في آخر السبعينات. «مولع بالحب» تتناول علاقة حارة في نزل رخيص في صحراء المكسيك لا تلبث أن توقظ مشاعر محرمة. يسخر الكاتب، الذي يمثل فقط عندما يحتاج الى المال، من خرافة القيم العائلية الأميركية خصوصاً في ثلاثيته «لعنة الطبقة الجائعة» و «الطفل الدفين» و «الغرب الحقيقي». يستند الى أسرته في رسم عائلة أميركية واقعة في شرك الجنون والإدمان على الكحول وقتل الأطفال، ويرفض نفاق بلاده القائمة على العنف والمحاضرة أبداً في السلام والديموقراطية.
يتهم «مستر كاوبوي الفنان» بتكرار موضوع الآباء والأبناء في كل أعماله وتجاهل الأحداث الآنية. يجد السياسة مضجرة والأحداث الراهنة قصيرة العمر. في التسعينات تناول التعصب الأميركي في «حالة صدمة» و «إله الجحيم» اللتين اعتبرتا يمينيتين سياسياً. لكنه يرفض الجمهوريين والديموقراطيين ولا ينتخب: «كلهم رجال أعمال بطريقة أو أخرى». رأى النقاد «إله الجحيم» ضد الحرب واتهموه بأنه راديكالي متقاعد من الستينات. تظاهر بأنه غير مهتم: «أنا أكتب مسرحيات». حدد هويته في الستينات عندما عمل مساعد نادل في بار جاز في نيويورك. بدأ بكتابة مسرحيات صغيرة قلّد فيها الارتجال في الموسيقى فامتدحه «الملك» إدوارد آلبي وبات ولي عن الطليعة المسرحية. وجد في الجاز أيضاً موضوع التمييز في الطبقة والتعليم والحرية والعدالة. كان مالكو نوادي الجاز وروادها من البيض في حين اقتصر المؤدون على السود. شعر بغضب هؤلاء وغضب مثلهم لكن شعار «قوة الزهور» في الستينات غطى الشعور الكبير بالثورة يومها. كان يكتب بعنف، مرة واحدة كمن يمتطي حصاناً، لكنه اقتنع في ما بعد بقول همنغواي ان الكتابة هي إعادة الكتابة. تعلمها من الإخراج الذي يفرض الاهتمام بتفاصيل اللغة والبنية والإيقاع، وباتت هاجساً يحبه. الهاجس الآخر والده الذي شارك طياراً في الحرب العالمية الثانية وعاد مصدوماً مسكوناً بأهوالها. حلم بالعمل صحافياً لكنه دمر حياته بالإدمان على الكحول والمشاريع الفاشلة.
في «غرب حقيقي»، عمله الأفضل والأكثر هزلاً، تكثر المشاهد بين شقيقين يختلفان طباعاً ويتفقان في الخوف من وراثة إدمان والدهما المدمر. شيبارد شرب وتعاطى المخدرات لكنه هرب من الانهيار في دول السبعينات الى لندن حيث أدى إخراجه مسرحية الى قفزة نوعية كبيرة في كتابته. بدأ يكتب وهو يفكر في الممثلين وكان ذلك مثل «قطعة موسيقية تتنقل وتتغير».
مودي بيطار
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد