الواقعية والأنا في فن الروائي
في بداية القرن التاسع عشر كانت الرواية عبارة عن لوحة تعكس بوضوح الواقع وتسرد تاريخاً، وكانت الحقيقة تختبئ خلف الخيال وكان أبطال اختراع الرواية الواقعية في باريس هم بلزاك وستندال وهوغو وفلوبير وموباسان وزولا وتعقدت الأمور في القرن العشرين
فكان هنالك بروست الذي استخدم ضمير الشخص الأول في سرده مع تأكيده أنه لم يكن يتحدث عن نفسه وحلم كافكا بواقع عجائبي ومهلوس وزواج بروتون بين الاثنين في آن معاً، وفيما بعد لم يعد سرد العالم كافياً، مع اندلاع الحرب العالمية الأولى.. عندها ابتدع كتاب أميركيون وانكليز وفرنسيون من أمثال همينغواي، أورويل ومالرو شكلاً جديداً هو رواية الريبورتاج، أو الحكاية التاريخية التي يكون المؤلف هو بطلها، وكانت تلك هي الواقعية الذاتية والتي حققت نجاحاً في أميركا، والتي نتج عنها رواية اللاخيال، كان من أبرز كتابها ترومان كابوت (بدم بارد)، ونورمان ميلر (العراة والأموات)، ورواية (جيوش الليل)، وجاء مرحلة مزاوجة الكتابة الروائية مع ما وقع من أحداث تاريخية مؤخراً مثل رواية (اللطخة) لفيليب روث، عن قضية لوينسكي أو (لغز أمريكي) للكاتب أوسوالدس، عن اغتيال كيندي الأمر الغريب هو أن تطور الرواية الفرنسية لم يأخذ المنحى نفسه، إذ تم التخلي عن الواقعية في منتصف الطريق والسبب هو ظهور عملين كبيرين هما الغثيان لسارتر ورواية الغريب لألبير كامو عام 1942 فحلت الوجودية محل الواقعية وإن كانت للرواية الجديدة من فضل، فهو أنها أكدت أن الواقعية الكلاسيكية لم تعد نافعة، ولم يعد الكاتب يستطيع أن يكتب كما كان يكتب قبل اختراع السينما والتلفزيون وكان على الرواية أن تعود إلى الشكل والموضوع، ولا تكتفي بوصف العالم الخارجي، أو الانفعالات الداخلية ومنذ أعوام التسعينيات عادت الرواية الفرنسية إلى جذورها، أي إلى الواقعية البلزاكية والمدرسة الطبيعية التي أرسى دعائمها زولا ومن هنا ظهرت سمة ما بعد الطبيعية التي التصقت بجيل كامل من الكتاب الساخرين، والذي امتاز باختلافه عن أسلوب الكتابة الانكلو-ساكسونية، وتمثل هذا الاختلاف بما سمي الاوتوفكشن واستطاع سيرج دوبروفسكي، عندما ابتدع العبارة عام 1977، أن يثبت تقليداً فرنسياً عريقاً، إنها الكتابة بضمير الأنا التي ولدت مع مقالات مونتين وروسو وشاتوبريان، ودشنها في مجال الرواية كونستان عام 1816 مع روايته أدولف، ويصفها دوبروفسكي بقوله (جمع متعارض مابين السيرة والرواية، ما بين سرد الوقائع والتصرفات الواقعية وبين الحكاية الخيالية). وهذا النوع من كتابة الرواية أحد الملامح الأدبية الذي منح الرواية الفرنسية أصالتها ومن الروائيين الأنكلو ساكسونيين الذين انتهى بهم الأمر إلى كتابة الأوتوفكشن هم مارتن أوميز في رواية (التجربة) وجيم هاريسون في رواية (في الهامش) وكويتزي في (نحو عصر الإنسان).. ولكن لماذا يشعر الكتّاب بضرورة إقحام أنفسهم في حكاياتهم؟ إنها النرجسية بحدودها المعقولة فالجمال بحاجة للحقيقة وبالتالي كانت رواية ما بعد الرواية الجديدة تقود إلى الواقعية عن طريق الأنا... وإن كان علينا البحث عن الرواية الجديدة، علينا البحث في هذه (الأنا) لقد انتقلت الرواية الجديدة من الموضوعية إلى الذاتية، وهذه الأنا الجديدة التي استعاروها من الروايات القديمة أيقظتها من غفوتها حتى ذهبت الرواية في جميع الاتجاهات وأصبحنا أمام سؤال: ماذا يكتب الأدباء؟ هل يكتبون حكايات خيالية أم حقيقية؟ هل يتكلم الكاتب عن نفسه أم عن المجتمع؟ وماذا يمنحنا الخيال الروائي ونحن نعيش هذا الواقع الذي يزداد تغرباً يوماً بعد يوم؟ ولم يعد الاوتوفشكن كافياً فهو يؤدي إلى اجتياح الأنانية كانت الرواية الجديدة مأزقاً تجريبياً ويبدو اليوم أن الرواية الفرنسية هي بصدد الرجوع إلى بلزاك وحسبما قال يوماً وايتمان إن الكتّاب مهمتهم قراءة العالم هناك الكثير من القصص المزيفة التي تضجرنا وهناك قصص تحاول إخراجنا من غفلتنا وإن دور الرواية الجديدة هو ولوج الأماكن الممنوعة لتصف مالم يستطع أحد وصفه إذ يقف الأدب الفرنسي في منعطف حاد، ويورو كونديرا في غالب الأحيان هذه المقولة لهيرمان بروش (إن سبب وجود الرواية الوحيد هو أن تقول الشيء الوحيد الذي بإمكان الرواية أن تقوله) المغامرة مستمرة! فبعد رواية الاوتوفكشن لن تأتي سوى رواية الأوتوريالتي - الواقعية الذاتية -.
عن لوموند
دلال إبراهيم- لمصدر: الثورة نقلاً عن لوموند
إضافة تعليق جديد