الوجه في الفن التشكيلي مفتاح النفس وكاشف الروح
دأب الإنسان ومازال، على تسجيل حالته السعيدة والمتأملة والشاردة والحزينة والغاضبة، بأكثر من لغة تعبيرية مكتوبة، أو مرسومة، أو مصورة، أو منحوتة، أو محفورة، وفي هذه اللغات التعبيرية كافة، كان الوجه الإنساني أهم العناصر تعبيراً عن مثل هذه الحالات اللصيقة بحياة البشر الدائمة التلون والاختلاف والتحول بين قطبي السالب والموجب، الحزن والفرح، الضيق والانفراج، التعاسة والسعادة.
فالوجه الإنساني هو بوابة الروح وعينها، والمعبر والجسر والوسيلة الانجح للوصول إلى دواخل الناس، والوقوف على ماتموج به من أحاسيس متباينة تتأرجح بين الآمال والهموم. والإنسان على هذا الأساس، أشبه مايكون بكتاب، عنوانه والمدخل إليه.. الوجه!!
في الوجه، تأتي العيون والفم كأهم وابرز عناوينه أو مفرداته، وتالياً اقدرها بلاغة على التعبير عما يعتمل داخل صاحب هذا الوجه، لذلك فقد حصر الفنان التشكيلي، جل اهتمامه، بهذين العنصرين البارزين في جغرافية الوجه. راقبهما بإمعان، وبهما حاول استخراج مكنونات الجسد، وتوق الروح، وصبابات القلب، وأهواء النفس وهواجسها، وعكسها من خلالهما
تركيز واعتناء
بمراجعة متأنية، لما أفرزته الحركات التشكيلية العالمية القديمة والحديثة والمعاصرة، وفيما بعد الصور الضوئية، والسينما، والتلفاز، من أعمال مسطحة (رسم وتصوير وحفر مطبوع وإعلان) ومجسمة (نحت مجسم ونحت غائر) اتخذت من موضوعة الوجه الإنساني مادة لها والتي عرفت عالمياً باصطلاح (بورتريه) نجد أن العيون والفم تحديداً، لقيا الكثير من الاعتناء والتركيز والاهتمام، وقد ذهب بعض المغالين من المحللين والنقاد والباحثين الجماليين، إلى حصر قيمة وأهمية لوحة الفنان الايطالي الشهير (ليوناردو دافنشي) المعروفة باسم (الجوكندا) أو (الموناليزا) بابتسامة ثغرها التي (كما أشاعوا) تعكس الحالة النفسية لمتأملها أثناء مواجهته لها. ولان الوجه (البورتريه) كما يرى البعض، أسهل تناولاً من الناحية التقانية، من بقية الجسم الإنساني وأكثر ما تتجلى هذه السهولة في النحت خاصة، فالوجه لايحتاج تنفيذه إلى العمليات المعقدة التي يحتاجها الجسم ككل، سواء في ذلك بناء الهيكل الداخلي، أو السيطرة على الكتلة العامة، والنسب التشريحية، وبالتالي مرحلة نقله من الطين (الصلصال) إلى مادة أو خامة مقاومة، وأكثر ديمومة، كالجبس والبرونز والاسمنت والرخام والحجر والحجر الصناعي والخشب والبوليستر.. الخ
اختلاف وتباين
لكن هذا لا يعني ، أن الوجه لايحتاج إلى الجهد والإمكانات المتفوقة من قبل النحات، اوالرسام، أو المصور، فشكل الجمجمة الإنسانية يختلف من إنسان إلى آخر، وكذلك التضاريس المكونة للرأس والوجه، غير أن هذا الجهد مقارنة مع الجهد الكبير الذي يستغرقه تحقيق الجسم الكامل في المنحوتة أو اللوحة، يبدو أكثر سهولة ويسراً.
من جانب آخر، برع بعض الفنانين في رسم وتجسيد الجسم كاملاً، فاختصوا به، وبرع آخرون في رسم وتجسيد الوجه (البورتريه) فعرفوا وبرزوا من خلاله، وتمركز إنتاجهم الفني حوله من دون الموضوعات الأخرى. ولشدة براعتهم في هذا الموضوع، تمكنوا من عكس الحالة النفسية للكائن البشري أثناء قيامه بمهمة (الموديل) في تعابير وجهه التي تأتي العيون رافعتها الأساس.
الراسم والمرسوم
أكدت أغلبية الدراسات التي تعرضت لموضوع الوجه (البورتريه) في الفنون التشكيلية أن مايقوم به الفنان عند رسمه أو تصويره أو نحته لوجه موديله، هو رسم وتصوير ونحت، وجه الموديل زائد وجهه هو، فالفنان بشكل عام عاجز عن تجسيد ماهو غريب عليه، وغير قادر على أن يخلق وجه إنسان آخر، وكل مايخلقه هو لامحالة، وجهه الخاص مضاء بمعرفته للموديل أمامه!!. على هذا الأساس، إذا ماكنت في صالات متحف، أو في حفل افتتاح معرض فني، فلا تحاول أن تجد صورة أو منحوتة لشخص معروف شبيهاً مباشراً له، فإن السعي إلى طبيعة مماثلة للواقع المصور، لايمكن أن يخلق غير نسخة لاحياة فيها. وقد أصاب احدهم حين قال: إن صورة الفنان، وصورة الموديل، تمتزجان في فن الوجه!!
كان (ميكل أنجلو) عبقري فن النهضة الايطالية، لا يقصد إلا معنى واحداً، في واحدة من نصائحه، إذ قال فيها : (مثلما تنحت أحيانا في صخرة صلدة، في وجه إنسان آخر، تنحت صورتك الذاتية). ويرى النحات القرقيزي (تورغوبناي صادقوف) انه كلما نظر في أول منحوتة له وهي (الراعي الصغير) يذهل لكثرة ما في هذا العمل من يفاعته هو، والسعي الجريء اللاواعي نحو الإبداع، وقلة ما في هذا العمل من الموديل الذي اتخذه متكأ لتنفيذ العمل.
ويسوق (صادقوف) لتأكيد فكرته السابقة، التمثال المؤثر للشاعر الروسي الكبير (بوشكين) الذي جذب إليه العديد من النحاتين والرسامين والمصورين والحفارين. فعندما زار مشغل (بيلا شوفا) لأول مرة، رأى على منصة النحت وجه (بوشكين) الذي حمل شخصية الشاعر وانفتاح روح النحات الذي أبدعه، وميلها إلى التفكير التحليلي، فالوجه الذي لايصفه المرء بأنه (جميل) بل بأنه (موح) ينعكس فيه الفكر والعاطفة على السواء، في الصياغة الحادة المتأججة لرأس الشاعر، وفيها إشارات لأشياء عديدة كالحب نحو الشاعر العظيم، والفهم الشخصي جداً لما هو رائع، والموقف من أفكار بوشكين، وإشارات إلى كل حقيقة في حياته.
ويشير (ألكسندر اليوت) إلى أن كل صورة عظيمة ترينا شيئاً نبصره بالعين مع شيء ندركه بالبصيرة: فهي تجمع بين البصر والبصيرة.
البصيرة والخيال
إن الفنان بغير البصيرة الغنية بالخيال، إنما يرسم سطوحاً قد تكون صورة بارعة ، سليمة من كل خطأ، مشحونة بأعنف العواطف، وقد تحظى بأرفع المدائح، ولكنها تبقى رسماً سطحياً، حتى أقوى المخيلات تعجز أحيانا عن اختراق كنه الرائعة الفنية. فالصورة الشخصية العظيمة، لن تكشف عن نفسها إلا لإنسان يفهم رفاقه وأقرباءه. إن صورة كصورة (فردريك) دوق سكسونيا للرسام (تتسيانو) الموجودة في متحف (البرادو) تبدو للطفل أشبه بالغول. وللتلميذ يبدو الدوق فارساً فظاً، غير أن البصيرة خصيصة الخيال، مقترنة بالتجربة الشخصية، ستخترق تلك الصدفة السميكة من الدرع الأسود، وكومة اللحم السمين المجرح القابع فيها، وستصل إلى ما أودعه (تتسيانو) في هذه الأشكال مجتمعة، ألا وهي روح الدوق الباسلة والحزينة.
إن الخيال (وهو اعم المقدرات وأشدها إنسانية) هو أيضا مقدرة الفنان الخاصة، وهذا دون غيره هو السبب في العمق والتنويع العجيبين اللذين تتصف بهما طرق الفنانين في النظر إلى الأشياء. وفضلاً عن ذلك، فإن العيون الجسدية وعيون الخيال، لاتعمل إلا معاً في الفنان، والواحدة لاتستثني الأخرى!!
العين والنفس
من جهة أخرى، يرى البعض أن الأعمال الفنية التي تنطبق على شخصية الفنان انطباق القناع الحي (وهو القناع الذي يؤخذ عن وجه الشخص بعد موته) على الوجه، لاقيمة لها. من جانب آخر فإن الأقنعة الحية تشبه دائماً أقنعة الموت، وليس يفصح احد منها عن أي خلق شخصي، والفن العظيم يفصح عن الخلق الذي كثيراً مايعاكس الشخصية، كما نرى في حال الفنان الفرنسي (غوغان).
أما الفيلسوف الألماني الشهير (هيغل) فيرى انه لو تساءلنا عن الجهاز الذي فيه تظهر النفس، من حيث هي نفس، لذهب بنا الفكر للحال إلى العين. إذ في العين تتركز النفس، فهي تبصر عبر العين فحسب، بل من هذه الأخيرة يمكن أيضاً إبصارها. إن مهمة الفن هي العمل على أن يغدو الظاهر، في مختلف نقاط سطحه، هو العين: مقر النفس وكاشفة الروح.
والحقيقة فقد كانت العيون ولاتزال، أهم مفردات الوجه الإنساني، وأقدرها على التعبير عما يعتمل داخل الجسد من أحاسيس وشعور وإرهاصات مختلفة، ومن اجل هذا، أولى الفنان التشكيلي (ولاحقاً المصور الضوئي) الوجه اهتماماً مركزاً، ولاسيما العيون منه، باعتبارها مفتاح الوجه، والوجه بوابة الروح، ومفتاح البدن.
د. محمود شاهين
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد