انتخابات المتن:ثورة بيضاء على الولاءات العائلية و المالية

21-08-2007

انتخابات المتن:ثورة بيضاء على الولاءات العائلية و المالية

كميل خوري مرشح التيّار الوطني الحر الفائز بانتخابات المتن النيابية عن المقعد الماروني إنسان من الطبقة الوسطى، متوسط العمر، لا ينتمي لعائلة كبيرة، وليس من كبار المتموّلين. هو «لا شيء» بمعايير الذين يملكون المال وينحدرون من عوائل إقطاعية حاكمة. لكنّ «اللاشيء» هزم أمين الجميّل، وهو رئيس جمهورية سابق وشقيق لرئيس جمهورية سابق، وابن لبيار الجميّل، أحد أركان الجمهورية اللبنانية التي ولدت بعد الاستعمار الفرنسي، ووالد نائب ووزير قُتل في ظروف تثير تعاطف كل الناس. وهو صاحب أموال طائلة، ويسانده مال سياسي ومعولم وتحالف يتألف من مروحة واسعة من رموز عائلية إلى أخرى ميليشياوية ورأسمالية من كل الطوائف والمذاهب، ومن خلفهم قوى دولية متنفّذة من نفطية خليجية وفرنسية وأميركية، وما يمثّله كل منها في المنطقة على صعيد النفوذ الاقتصادي والسياسي والعسكري.
لكن لفهم ما جرى في انتخابات المتن وتفسير كيف استطاع رجل الشارع العادي، كميل خوري، الذي لا يختلف بشكله وهندامه وطريقة حياته عن أي فرد متعلم من أبناء الطبقة الوسطى، كيف استطاع هزيمة السياسي المحترف سليل الصيغة التقليدية، الطائفية العائلية المطعّمة بالميليشيات، وحليف رأس المال السياسي المعولم... لفهم كل ذلك، يجب العودة إلى الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975، إذ كانت هذه الحرب في بداياتها، وقبل أن تتحول بفعل عوامل كثيرة إلى حرب أهلية، كانت في جانبها اللبناني فعلاً ثورياً يريد تغيير صيغة 1943 الطائفية العشائرية العائلية، التي سجنت المجتمع اللبناني في صيغ سياسية متخلفة لا يستطيع الفرد اللبناني، المتعلم المثقف، والريادي على مستوى الوطن العربي، لا يستطيع الفكاك منها. لذلك كان مضطراً إلى أن يلبس هذا القميص السياسي الموروث منذ أيام المتصرفية، مع أنه ضاق على جسده. فلا مكان للفرد في هذا النظام مهما بلغت درجة وعيه ورقيّه ونضجه السياسي، إلا في طائفته أو عشيرته أو عائلته.
ونتيجة صيغة 1943، احتكرت الحياة السياسية طبقة تنحدر أو تمثّل قوى طائفية ومالية شكّلت طبقة متحالفة متضامنة عابرة للطوائف بتحالفاتها، محتكرة تمثيل طوائفها، حاجزة أي تغيير. لكن هذه الطبقة بدأت تتفسخ قبل اندلاع حرب عام 1975، وهناك أمثلة كثيرة تدل على تفسخها وعدم قدرتها على استيعاب التطور العاصف الذي حل بالمجتمع اللبناني عبر انتشار الوعي السياسي والتعليم الذي لم يعد حكراً على أبناء هذه الطبقة. ولعلّ أشهر مثال على تفسخها فوز السيد نجاح واكيم وصعوده إلى المجلس النيابي نائباً عن بيروت أوائل السبعينيات. فقد كان في وضعية شبيهة بوضعية كميل خوري. فهو لم يكن يمثل قوة مالية ولا عشائرية ولا طائفية، بل هو قوة حزبية ناصرية، أي قوة حديثة تتناسب مع فكرة المواطنة حيث انقسام المجتمع أفقياً إلى طبقات وحيث يتم الانتظام أو الاختلاف حول الأفكار والبرامج، فلا ينقسم المجتمع عمودياً إلى طوائف وعشائر. وجاءت الحرب بهدف معلن أساسي هو الخلاص من الطبقة السياسية المتعفنة. لكن الحرب فشلت في ذلك على رغم كل التضحيات التي قدمت. ومن الذين استشعروا فشلها باكراً، الفنان زياد الرحباني الذي قدّم «اسكتشاً» في برنامجه الشهير «بعدنا طيبين» يتحدث فيه عن مزبلة التاريخ وضرورة اغتنام الفرصة للخلاص من النفايات السياسية، وإلا ضاعت الفرصة لثلاثين عاماً أخرى. وبالفعل، ضاعت تلك الفرصة. فقد توقفت الحرب باتفاق الطائف الذي أعاد إنتاج صيغة 43 مع بعض التعديلات الطفيفة، تمثلت بإدخال قادة جدد إلى الطبقة السياسية الجديدة مثل قادة الميليشيات، وبعضهم لا ينحدر من الطبقة السياسية التقليدية، لكن بعضهم الآخر ينحدر من الإقطاع السياسي، فأضافت إليه الحرب الصفة الميليشياوية، فتحول إلى قائد طائفي وميليشياوي في الوقت عينه، وإلى هؤلاء انضم سياسيون هم أبناء لرأس المال بصيغته المعولمة، وهذا ما نلاحظه في الطائفة السنّية تحديداً.
أما الطائفة الشيعية، فقد استثنيت من إعادة الإنتاج وفق صيغة 1943. فقد كان للحرب فعل تغيير ثوري في بناها، إذ تغيّرت تركيبتها الاجتماعية والسياسية، فدفنت الإقطاع السياسي إلى الأبد، دافعة إلى الساحة جيلاً جديداً من السياسيين بمواصفات غير مألوفة لبنانياً، وإن كانت لها إرهاصاتها السابقة. وهكذا انتهت الحرب بما يمكن اعتباره شكلياً حفاظاً على الصيغة التقليدية وفشلاً لمشروع التغيير. لكنّ المدقّق في الأمر يكتشف أن هذه الصيغة باتت هشة. فالتغيرات السكانية وانتشار الوعي والتعليم وعجز النظام السياسي القائم عن استيعاب القوى الجديدة، وهي أسباب اندلاع الحرب، ما زالت قائمة، بل إن الأمور تفاقمت. أما القادة الجدد الميليشياويّون وأبناء رأس المال المعولم الذين صعدوا بفعل الحرب الأهلية، فقد انصاعوا للنظام القديم، بل إن وجود بعضهم على الساحة السياسية بحد ذاته أكبر تزكية للنظام القديم. فهم، بتصرفاتهم وفسادهم ودمويّتهم، جعلوا الناس تترحّم على الطبقة السياسية القديمة.
لكن في اللحظة التي هُيّئ لهذه الطبقة أن الأمور دانت لها إلى أبد الآبدين، وخاصة بعدما ضمت إليها الميليشياويّين الذين أثبتوا جدارة في قتل الناس وذبحهم، وبعدما طعّمت نفسها بقوى رأس المال المعولم، في هذه اللحظة وهي منتشية بانتصارها الموهوم، أتتها الضربة القاضية سلماً. فما عجزت الحرب عن إنجازه، أنجزته انتخابات 2005 في معقل المارونية السياسية التي تمثّل النخاع الشوكي لصيغة 1943، لتصعد قوى حديثة حزبية ينتظم الناس فيها وفق برنامج محدّد، لا ضمن ولاءات عائلية أو مالية، نعني التيار الوطني الحر. ليتوج ذلك بمعركة المتن الأخيرة التي أعلنت رمزياً نهاية مرحلة كاملة في تاريخ لبنان.
التاريخ كائن برّي يستحيل ترويضه، لا يخضع إلا للقوانين الخاصة به، ولا يمكن التحايل عليه. قد يتغاضى عنك حيناً، إن حاولت تجاهل قوانينه، أو إن خُيّل لك أنّك روّضته، لكنّه سرعان ما ينتقم منك ويعود للتصرّف بمنطقه الخاص، فيحوّل ربحك المؤقت الذي توهّمت أنه صار مضموناً في جيبك إلى خسارة مضاعفة ربما لا تستطيع تعويضها أبداً.
إن ما جرى في انتخابات المتن هو ذروة عملية تغيير بطيئة اختمرت منذ عقود في المجتمع اللبناني، وعبّرت عن نفسها بحروب وانفجارات، لكنّها وصلت إلى الذروة في هذا اليوم، وهذا يوم له ما بعده كما تقول العرب، فهو يفتح طريق بناء مجتمع جديد على أسس المواطنة والانقسام الأفقي بدلاً من العمودي.

ثائر دوري
المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...