'بوبوس' كوميديا الجوع الجنسي لنجم سبعيني لا يحترم قضية فيلمه
بدأت صالة سينما دمشق العريقة، أو (سينما سيتي) كما سميت بعد تجديدها على يد المنتج المخضرم نادر الأتاسي... بدأت تستعيد شيئاً من أجواء الطقس السينمائي الغائب في دمشق منذ سنوات طويلة... وفي العرض الجماهيري الأول لفيلم عادل إمام الجديد (بوبوس) بدا جمهور العائلات وكأنه استعاد ثقته بإمكانية الذهاب إلى صالة سينما من أجل مشاهدة فيلم سينمائي جديد بشروط تقنية وفنية ممتازة... وأجواء اجتماعية محترمة طالما أبعدته عن هذا الطقس من قبل!
إلا أن الحديث عن جديد عادل إمام (بوبوس) لا يختلف كثيراً عن قديمه، سوى بتناول موضوع لم يسبق له تناوله من قبل.. ضمن توليفة تمزج بين الاقتصادي والسياسي من أجل نقد بنية الفساد القائم في مصر!
رجال الأعمال والفساد الأمني!
يتناول فيلم (بوبوس) الذي كتبه يوسف معاطي وأخرجه وائل إحسان... فساد طبقة رجال الأعمال في مصر، من خلال التركيز على مشكلة القروض الكبيرة التي يستجرونها من البنوك بضمان أصول مصانعهم وشركاتهم، ثم يتعثرون في سدادها، ويهربون خارج البلاد حاملين معهم الملايين أو المليارات، ومخلفين وراءهم ملفات فساد ونصب وتزوير وبنوك منهارة وأملاك تحت حراسة قضائية لا تفي شيئاً من الأموال الطائلة التي اقترضوها... أما المصانع والشركات التي يقترضون باسمها، وتحت شعارات: رفد الاقتصاد الوطني وتشغيل اليد العاملة، فقد صورها الفيلم بطريقة كاريكاتورية فاقعة... فاللوحات الإعلانية الكبيرة والمضاءة، تخفي وراءها مصانع وهمية هي أشبه بالخردة، تكاد تخلو من المعدات والعمال وكل مقومات الإنتاج، واستعراض آلية العمل فيها هو مهزلة حقيقية تظهر زيف التسميات الإعلانية الرائجة عن الضخامة والريادة ليس على صعيد مصر فقط، بل الشرق الأوسط!
ومع كل مأزق يقع فيه بطل الفيلم (محسن الهنداوي) وهو واحد من رجال الأعمال الموصوفين، نجده يلجأ إلى شخصية ذات نفوذ أمني، كي تذلل له العقبات، وتفك الحجز، وتسهل له الحصول على قرض بنكي جديد... والسر في العلاقة مع الشخصية الأمنية، ليس علاقة قرابة، أو نساء فاتنات يقدمن على سبيل الرشوة الجنسية، بل شراكة قائمة بين رجل الأعمال هذا، وبين ابن المسؤول الأمني الطفل (عباس) الشهير بـ(بوبوس) وهكذا يتحالف فساد رجال الأعمال، مع فساد رجال السلطة، وتصبح مقدرات وخيرات البلد متاحة لهم ولأبنائهم بينما تغرق شرائح كبيرة في الفقر والبطالة والجوع، ومشاريع الزواج المؤجلة!
شخصيات مهزوزة وحالة معممة!
لكن هذا الموضوع الهام، الذي ينطلق من رؤية نقدية تريد أن تقول شيئاً، يقدم من خلال سيناريو مفكك وساذج، يفتقر لمنطق درامي، وتغيب فيه الحبكة القوية، والقدرة على بناء شخصيات درامية لها ملامح خاصة يمكن أن تغني السيناريو... ومن المؤسف أن يوسف معاطي الذي بدأ كاتباً ساخراً له رؤية، يتحول اليوم إلى واحد من اردأ كتاب السيناريو في مصر... فهو يكتب للسينما والتلفزيون بغزارة مفرطة.. ويظهر أثر ذلك على طريقة معالجة أفلامه ومسلسلاته، التي لا تخلو من أفكار هامة، وأجواء طريفة... لكن سرعان ما ينهار كل هذا أمام معالجات سطحية وعجولة كالتي نراها في فيلم (بوبوس)، حيث كل شيء موظف لا لخدمة الفكرة والخط السياسي العام، بل لتقديم كوميديا مليئة بالجوع الجنسي المبتذل والرخيص، الذي يتيح لبطل الفيلم (عادل إمام) أن يقدم (إيفهاته) الخاصة وإرشاداته الجنسية للشباب، واستعراض (دونجوانيته) مع معظم النساء اللواتي يظهرن في الفيلم، بدءاً من المغنية التي تغني في حفل خاص في قصره، لنراها في مشهد تال وهي تشاركه السرير... وانتهاء ببطلة الفيلم (يسرا) أرملة أحد زملائه من رجال الأعمال... والتي يخوض معها معارك مبتذلة ظاهرها محاولة استرجاع ديونه التي بذمة زوجها المتوفى، وباطنها تقـــــديم سلسلة من مشاهد العراك الجنسي، وصياغة قصة حب، يحاول من خلالها أخيراً أن يتحدى رغبة المسؤولين الأمنيين بتزويجها لرجل أعمال آخر قدم خدمات للدولة، فيودي به هذا التحدي إلى السجن، في تحول درامي مفبرك وغير مبرر بشكل مقنع، ولا هو منسجم مع مقدمات الشخصية... إذ كيف يمكن لرجل أعمال شهواني وفاسد، وأرملة لعوب تبحث عن منفذ لمأزقها المالي... أن يتحولا فجأة إلى روميو وجولييت يؤمنان بالحب إلى درجة الاستعداد لدخول السجن من أجله؟!!
إن مشكلة السيناريو أنه يقدم شخصيات رجال أعمال كاريكاتورية ومهزوزة لا يجدون شيئاً يعملونه سوى إعلان تعثرهم بعد أخذ القروض من البنوك، ومن لم يتعثر منهم أمام القروض والمضاربة في البورصة فهو يتاجر بالمخدرات ومصيره الوقوع في قبضة العدالة... وهكذا لا يقدم الفيلم أي نموذج متوازن يستحق الاحترام، بحيث يمكن أن يكبح اندفاع الفيلم نحو تعميم مقولته ورؤيته هذه، وهو لا يهتم بتقديم أي مناقشة جدية للمشكلة، أو محاولة تشريح آلية نشوء هذه الشريحة الطفيلية التي استنزفت الاقتصاد المصري في السنوات الأخيرة، وكيف تغيرت صورة رجال الأعمال وأخلاقياتهم من مساهمين في بناء الاقتصاد الوطني وتحقيق نهضته كما نرى في نموذج خالد الذكر طلعت حرب، إلى مجموعة من النصابين الذين يبددون الأموال، بلا أي إنجاز... وبالطبع لن يجد السيناريو فسحة للغوص في تشريح عميق كهذا، لأنه كان مشغولاً على الدوام باللهاث... من أجل توفير فسحة لبطله كي يعبر عن قدراته الفذة في تلغيم الحوارات بالتلميحات الجنسية، والانغماس في مغامراته التي لا تنتهي!
جوع جنسي مثير للشفقة!
يتم عادل إمام العام القادم السبعين من العمر، وهو يظهر في الفيلم بكرش متدلي، ووجه مملوء بالتجاعيد، وعينين أفقدت السنوات بريقها... ورغم ذلك يصر على أن يظهر في مظهر رجل ثلاثيني يعاني من جوع جنسي مثير للشفقة، ولا يوضح الفيلم سر عدم زواج رجل الأعمال الميسور هذا وهو في هذه العمر التي يبدو فيها على الأقل في العقد السادس، ولا يقدم أي إشارات لعلاقته بفكرة تأسيس أسرة أو إنجاب أطفال في الماضي... ويبدو انغماسه مع بنات الهوى، أو من يقمن مقامهن، هو الشغل الشاغل له، ومن أجل ذلك يقدم له السيناريو الكثير من الأحداث المفبركة التي تخلو من اللياقة والذوق... وإذا كنت أتفهم أن يتم مداهمته مراراً لإبلاغه بوضع أملاكه أو ما تبقى منها تحت الحجز والحراسة القضائية... وهو في الفراش يمارس نشاطه الجنسي كـ(إيفيه) كوميدي يتكرر، ويبدو تكراره جزءاً من آلية الإضحاك... فإنني لا أتفهم كيف يمكن تحويل مجلس عزاء (ولو كان مصطنعاً) إلى مناسبة لتأمل أجساد النساء، وتلمس فخوذهن المكشوفة، بشكل مثير للتقزز... كما لا يمكن أن نتفهم أي ذوق يجعلنا نقبل مشهد مداعبة رجل الأعمال هذا لإحدى الغانيات، وتبادل التلميحات الجنسية المكشوفة معها، بينما يجلس أمامه المحامي الكبير ونائبه في إدارة شركاته، وهما يراجعانه في موضوع هام!
إن الرغبة في الإضحاك، جعلت عادل إمام مستعداً لتقديم أي (إيفيه) جنسي بلا أي ضابط له علاقة بالذوق العام، أو بالتعامل مع مشاهديه كبشر وليسوا ككائنات مهووسة لا يشغل تفكيرها سوى الجنس في أي مكان وأي مقام... ومن المؤسف أن يوسف معاطي قد جارى رغبة عادل إمام تلك (نفس الصورة نراها في معظم أفلامه الأخيرة باستثناء 'عمارة يعقوبيان') فمشاهد المشاجرات بينه وبين يسرا، هي صورة عن مشاهد مماثلة كان قد قدمها مع شيرين في فيلم (بخيت وعديلة) تنطوي على نفس الآلية: صراع جسدي يفجر رغبات مكبوت ويتيح المجال أمام تصور أوضاع جنسية، ويُحدث تحطيماً شاملا في المكان... ومشاهد تقبيل يسرا فور خروجهما من السجن، تحيلنا إلى مشاهد مماثلة في فيلم (افوكاتو) عندما كانت تزوره زوجته في السجن.. وثمة الكثير من التطابقات التي يبدو فيها عادل إمام يستحضر كل هوسه الجنسي المحموم من أفلامه السابقة، ليعيد إنتاجها هنا، ضمن سيناريو يتسع لكل هذا الهزل الجنسي، فيضحي بقضيته السياسية النبيلة، وبملامسة الهموم الحياتية لشرائح الناس البسطاء، من أجل أن يغلف كل هذا الجوهر الذي يستحق الاحترام، بغلاف لا يستحق الاحترام... إلا إذا اعتبرنا أن (بوبوس) هو كوميديا جنسية ذات خلفية سياسية وليس العكس!
ولا يبدو الحوار بأرقى من البنية المشهدية التي قدمها الكاتب، فخطاب محسن الهنداوي أثناء الإعلان عن القناة الفضائية قمة في السماجة وتصنع البلاهة التي لا تثير أي رغبة في الابتسام... وإذا كان حديث يسرا عن زوجها رجل الأعمال المتوفى بأنه (كان يضع صباعه في أنفه دوماً كي يتسلى) وبأنه كان يفقأ الدمامل التي يمتلأ بها وجهها بأصابعه ثم (يضع صباعه في فمه) هو كوميديا... فإن على المشاهد أن يستعين بمضادات إقياء كي يحتمل هذا النوع من الكوميديا والإضحاك بالتأكيد!
إهانة حذاء الزيدي!
لم أحزن أخيراً للمستوى الذي بات يقدمه فنان كوميدي موهوب وقادر على التأثير بملايين من المشاهدين كعادل إمام، ولم أشعر بكثير من الأسف لأنه يمكن أن يقدم في أفلامه كوميديا أرقى من هذا المستوى المسف بكثير، وأن يوصل رسائل أخرى أعمق وأنضج مما فعل في هذا الفيلم وسواه... فيبدو أن عادل إمام قد ارتضى لنفسه هذا المستوى، وهو يحب أو يحرص لا فرق - على أن يظهر في هذا الإطار، الذي يخاطب فيه الغرائز قبل العقول، ويثير الشهوات بدل أن يثير الرغبة في تأمل واقع مرير يحياه ملايين الناس البسطاء الذين اعتبروه يوماً معبراً عن تطلعاتهم... حسناً له الحرية في أن يقدم ما يشاء وهذا خياره كفنان طبعاً... لكن ما أحزنني في الفيلم أن يتم توظيف مشهد رمي الصحافي العراقي منتظر الزيدي لفردتي حذائه في وجه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، والذي حفظه العالم بإجلال وعن ظهر قلب، من أجل تقديم (إيفيه) سياسي ملفق في كوميديا من هذا النوع... لقد أهين حذاء الزيدي في عمل فني لم يخلص لقضيته التي طرحها، فكيف له أن يخلص لما عبّر عنه الزيدي؟!!
لقد شعرت حينها أن عادل إمام ومن معه قد اغتالوا أجمل مشهد في ذاكرتي ووجداني من أجل فيلم لا يستحق أن يبقى في الذاكرة ولا في الوجدان!
محمد منصور
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد