تلك الوليمة المتنقّلة!
اعتاد أصوات القذائف فهو يسمعها ويبحث عن مكانها في الفايسبوك. يسألونه ماذا تفعل في دمشق فيجيب «ماذا أفعل خارج دمشق» لم يغره اللوفر في باريس واستعجل الرجوع إلى دمشق حيث يتابع حياته فيما وليمة الدم تتنقل من مكان إلى مكان.
1500 يوم من الجحيم! ياللهول، أقول لنفسي: كيف احتملت تدابير هذه الوليمة المتنقّلة من القتل، والمذابح، والمقابر الجماعية، والمجاعات، وعنف الأرواح؟ كنت أظن أنني اغتسلت من هذا الكابوس المرعب، إثر انتهائي من كتابة روايتي»جنّة البرابرة» التي حاولت خلال كتابتها، طوال سنتين، أن أقشّر عن جلدي رعب 1000 يوم فقط، وأن أغلق القوس عند هذا التاريخ، لكن مخطوطة الحرب لا تزال مفتوحة، تقطر دماً طازجاً مثل ذبيحة، وربما ينبغي علينا أن نخلط الحبر بالدم لتفسير هذه الكيمياء اللعينة. اليوم صباحاً، كان صفير القذيفة يقترب من مكان إقامتي، لكنني لفرط الاعتياد تابعت شؤوني، وكأن شيئاً لم يحدث. فقط فتّشت في الفايسبوك عن صفحة «يوميات قذيفة هاون في دمشق» لمعرفة مكان وقوع القذيفة. إنها في حي الجسر الأبيض. حسن، القذيفة بعيدة قليلاً. لكن الأمر يحتاج إلى بعض الشرح. أقطن في الطبقة الأخيرة من بناية في حي الصالحية. الجدار الشرقي من الصالون، ينتهي بنافذة واسعة ومرمى مكشوف. أبتعدُ عن مرمى القذيفة نصف متر كي أتفادى شظاياها التي أتخيّل أنها ستدخل من النافذة، ثم أتابع حرباً أخرى على الشاشة. في الشارع أذهب إلى سيناريو آخر، بقصد العبور الآمن. في المقهى الذي ينتهي بفسحة سماوية مكشوفة، أرسم سيناريوهات أخرى لمكان وقوع القذيفة، وكيف سيتطاير زجاج المقهى وتتحطّم الكراسي وتتناثر الجثث، لكنني حين سأسمع بعد قليل زعيق سيارات الإسعاف آتية من مكانٍ آخر، أشعر بالطمأنينة قليلاً. ولكن ما مصير الجرحى والقتلى في سيارات الإسعاف؟ لا أعرف أحداً منهم، وماذا كانوا يفعلون، قبل وقوع الانفجار مباشرة. هذا نوع من مقاومة صلابة الألم بالتحايل عليه، أو مراوغته. سيأتي أحدهم إلى المقهى، ويقول كنت على مبعدة أمتار من الانفجار، لو لم أتأخر دقائق فقط، لكنت في قائمة المفقودين، أجيبه: هذا مؤكد، لو لم تنجُ لما رويت لي الحادثة، ولن ترتشف قهوتك المرّة، كما تفعل الآن. بالنسبة لي، فإن كل ما يحدث في البلاد هو طيش عميان، وأعمال برابرة، ومكائد سماسرة . لا أجادل بائع الخضار، أو الفاكهة، أو التبغ، أو سائق التاكسي في الأسعار. الأمر لا يحتمل، فكل يوم نجاة، هو يوم إضافي مستقطع، مثلما هو اعتياد على استبداد من نوع آخر. استبداد العنف والتهجير والجوع والنفاق والأكاذيب والخرائط الممزّقة. أرسم خرائطي بصناعة بهجات عابرة، وحميميات خاطفة، وقراءات مستعادة، ذلك أن استعراض شريط كلّ ما حدث مهمة شاقة، وعسيرة، ومؤلمة. أمس، عدت إلى قراءة أبي العلاء المعري» لزوم ما لا يلزم» ، ربما لأني تذكّرت حادثة تحطيم تمثال «رهين المحبسين»، وأنا استعرض صورة تفجير قوس النصر في تدمر، فيما أتذكّر أصدقائي القدامى الذين غادروا البلاد كي يصنعوا ثورة لم تحدث، أو أنهم تركوها في العراء. أبطال بكامل شجاعتهم، يصارعون أمواج «الموقع الأزرق» بحروب وهمية يديرونها من وراء البحار، وينتحل بعضهم صفةً ليست له، في سيرة ذاتية متوهمة، ومثقلة بأوسمة الشجاعة، كما يحدث لجنرال في رواية لماركيز. نحن هنا نمحو قوائم القتلى بقتلى جدّد، فيما الآخرون يطالبون بالثأر من خنادقهم البعيدة والآمنة لقتلى منسيين. كان خوسيه ساراماغو قد أشار مرّة بأن «القسوة اختراع بشري». مقياس القسوة هنا أشدّ صلابة بدرجات.
ماذا أفعل خارج دمشق؟
ولكن ماذا تفعل في دمشق أمام كل هذا الحطام؟ تسألني مذيعة تعمل في إذاعة غامضة. أقول لها: وماذا أفعل خارج دمشق؟ لا أحتمل تراباً آخر. لا معنى للمدن من دون أصدقاء وذكريات وروائح، لا معنى لدمشق من دون دمشق بأبوابها السبعة. في باريس شعرت بالضجر بعد ساعتين من التجوال في متحف اللوفر، واتهمني رفيق الرحلة بأنني بدوي لا يقدّر كنوز الفن (رفيق الرحلة نفسه، اهتدى اليوم إلى طريقة مبتكرة في التهام الطوائف المعادية بالشوكة والسكين)، أما في دمشق، فإنني أعيش دمشق، على هيئة ساعة رملية لقياس أنواع الصبر وفقه انتظار ما لا يأتي. في «مقهى الروضة»، أنتظر أصدقاء عابرين، أو أنهمك في قراءة كتاب وسط ضجيج لاعبي نرد نزقين، وأصوات طائرات حربية. لدينا ما يكفي من الموتى، وليس لدينا ما نفعله أكثر من إنجاز مواعيد غامضة في ما تبقّى من شوارع ومكتبات وحانات. أعبر ممر مسرح الحمراء ترافقني صور مسرحيين راحلين، فأنصت إلى ضجيج الخشبة، وكأن أصوات هؤلاء لم تغادر المكان. أستعيد صوت إيفان ديميتريتش في» عنبر رقم 6» لأنطون تشيخوف:» حياة لعينة، والمصيبة أنها لن تنتهي بمكافأة على الآلام، أو بمشهد ختامي، كما في الأوبرا، بل بالموت». أكمل طريقي إلى «المكتبة العمومية» في فندق الشام. ألتفت إلى زجاج ما كان يسمى «مقهى البرازيل». ها هنا وراء هذا الزجاج، كان يجلس محمد الماغوط بتبغه وسعاله وسخطه. الآن تحتل مكانه محاسبة شابة وراء كوّة زجاجية ضيّقة، بعد أن تحوّل المقهى إلى فرع لأحد البنوك الخاصة. على الرصيف المقابل، أنتبه إلى أن اسم «مكتبة ميسلون» التي أغلقت أبوابها منذ سنوات، احتلته واجهة جديدة لمكتب صرافة باسم «زمزم». أقول لنفسي: هل علينا أن نغرغر أفواهنا بماء البنكنوت المقدّس كي نشعر بطهارة هذه اللحظة العاتية؟ النادل في «بار أميّة» يدافع بحماسة عن عرق «الريان» فخر الصناعة الوطنية، في مواجهة الإشاعات الكاذبة «كل شيء مغشوش في هذا البلد عدا عرق الريان»، وأحد المتسكعين يفكّر أين ينام الليلة بعد أن طردته زوجته من البيت بسبب عطالته المزمنة، ومشاريعه الفاشلة، وهناك أيضاً، رواية لأليف شفق في نسخة مقرصنة تقبع على طرف المائدة. لا نسخة أصليّة لحياتنا الآن، في هذه الجغرافيا السائلة والمنكوبة والملعونة. نسخة مزوّرة فقط، أو «فوتوكوبي حياة»، تماماً، مثلما تفعل « سينما الأهرام» حين تضع إعلاناً ممزّقاً بأنها تعرض» أحدث الأفلام العالمية»، وتضع صوراً لممثلات إغراء لسنَ موجودات في الأفلام المعروضة في الأصل. نعيش لحظة أفغانستان، والعراق، وكوسوفو، بنسخة متأخرة، ولكن ليس لدينا نسختنا الشخصيّة من محسن مخملباف (قندهار)، أو عتيق رحيمي (حجر الصبر)، أو أمير كوستاريكا (تحت الأرض)، كي نصنع أفلامنا، ووثائق موتنا التراجيدي، كما ينبغي، كأن كل ما يحدث يجري في مسرح للدمى بأصوات مستعارة، فوق منصةٍ باردة. هنا الدم يسيل من الشقوق، ولا أحد ينصت إلى «هاملت العشوائيات» وهو يهذي: «ثمة رائحة عطنة في مملكة الدنمارك. أما أنا فأخشى أن تكون الرائحة العطنة، انتقلت إلى هنا».
الآن، الآن، حين يهتزّ زجاج نافذة غرفتي من هول انفجار القذيفة (14 تشرين الأول - السادسة والنصف مساءً)، وترتفع سحب الدخان على بعد مئة متر فقط، كيف أنقلَ رائحة دخان الانفجار بالمواصفات نفسها التي ملأت أنفي؟
خليل صويلح
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد