جرائم "العار"وصمة في جبين مجتمعات ضيعت معنى الشرف
رغم التحوّلات الاجتماعية التي اخترقت النظام القيمي عند العشائر في منطقة بعلبك الهرمل، لا تزال مفاهيم الدفاع عن الشرف متمثلة بـ«التخلص من العار المرتبط بالفتاة»، ولا تزال المفاهيم الذكورية ترى في الفتاة عاراً، يُستسهل التخلص منه. لماذا يعدّ البعض جريمة الشرف عملاً يُفتخر به؟ وكيف تغيّر مفهوم الشرف؟
منذ عشرات السنين أقدم أحد زعماء العشائر النافذين في منطقة بعلبك الهرمل على قتل ابنه لأنه هتك عرض فتاة من عائلة «ضعيفة»، محافظاً بذلك على مكانة وسمعة عشيرته ومستدركاً الحال التي ستؤول اليها أوضاع تلك العائلة إذا ثأرت لابنتها لأنها سوف تُباد كلياً.
يُجمع علماء الاجتماع والدين على المفارقة الكبيرة والتناقض في التعبير عن «جريمة» و«شرف»، وأن الشرف إن كان مسبّباً للجريمة فهو من منافيات الشرف. عوامل عديدة طرأت على المجتمع العشائري، أحدثت فيه بعض التغييرات في العرف والصيغ التي كانت تعدّ ثوابت، أهمها وعي الفتاة المترفّع عن العقلية العشائرية وانخراط الشباب في الأحزاب، والعمل في المؤسسات المدنية.
سجلات محكمة الجزاء في زحلة عن جرائم الشرف، تشير إلى أن 70 % من حالات «الخطيفة» القسرية في محافظة البقاع كانت حافزاً لجرائم الشرف، وأنها أدت الى خلافات عائلية انسحبت إلى ارتكاب جرائم الثأر. والى أن 30 % أدت إلى زواج، بينما 5 % من «الخطيفة» التوافقية أدت إلى جرائم الشرف، في حين أنه في المرحلة السابقة 75 % من «الخطيفة» التوافقية كانت «هدر دم». من ناحية أخرى، تؤكد الإحصاءات أن نسبة الاعتداء على الفتاة آخذة بالارتفاع، تصل أحياناً الى حالات اغتصاب تمتنع فيها الفتاة من الادعاء بسبب فهمها لواقعها «المتصلب» فتتدنّى بذلك نسبة الجريمة.
أستاذ الانتربولوجيا في الجامعة اللبنانية الدكتور رفيق الكرك يرى بأن للشرف مفاهيم مطاطة ومبهمة، لافتاً الى أن الذي ينظر في جرائم الشرف يتخذ دوماً الفتاة كموضوع الجريمة، بينما يكون الذكر هو الموضوع. ويشرح الكرك أن الشرف «يرتبط بنقاط عديدة، تبدأ بارتباطه الوثيق بشرعية العلاقة الجنسية التي تحكمها قوانين عائلية وعشائرية أكثر مما هي دينية أو قانونية، وأن الخروج عن طاعة الأهل أو الزوج يرتبط أيضاً بمفهوم الشرف». ويقول الكرك إن «الشرف أيضاً مرتبط بعُذرية العروس ليلة الزفاف» ويتساءل: «إذا فشل الزوج في المهمة، لماذا يُلصق العار بالفتاة وترتكب الجريمة بحقها؟».
وفي الجرائم المرتكبة تحت عنوان الشرف، يُظهر الكرك أن الكثيرات ذبحن في العديد من الدول العربية ولبنان، ولا سيما في منطقة بعلبك الهرمل، لمجرد الشك والظن. فهو ينقل، أي الكرك، عن أحد الذين قضوا محكوميتهم بجريمة شرف في منطقة بعلبك الهرمل «أنه أطلق النار على شقيقته بمعدل مئة طلقة، فقضى ثلاث سنوات في السجن بعد أن منحه القضاء أحكام تخفيفية». ويضيف نقلاً عنه: «أنا فخور بما فعلت، لقد غسلت شرفي، والآن أستطيع أن أمشي بين الناس مرفوع الرأس وأنا لست بمجرم أو هاو ٍ للقتل، لكن ما يمس بالكرامة والشرف لا يُسكت عنه، فالعقاب الوحيد للزانية هو القتل لأن القضاء قد يتهاون معها، ويسمح لها بأن تمارس حياة طبيعية بعدها. وإن لم يتم التخلص منها، فسينسحب عاراً على كل أطفالنا وأحفادنا مستقبلاً وخاصةً الإناث. وسيبقى صبغة تلحق بنا أينما ذهبنا».
وعما حصل في منطقة بقاعية أخرى، يضيف الكرك: «في السبعينات شهدت إحدى ضواحي زحلة جريمة مروعة، لا تزال ألسن الناس تتناقلها، حيث تعرّف شاب من آل ح. على فتاة من آل ز.د. وقررا الزواج رغماً عن أهلها، تدخلت إثرها الوساطات وتمت المصالحة، فتزوجا وأنجبا ولدين. بعدها بفترة، اصطحب والد الفتاة ابنته بحجة مرض والدتها، وما إن وصل بها إلى جوار المقابر حتى أدخلها وذبحها تحصيلاً للشرف».
منطقة بعلبك الهرمل شهدت تعاطياً خاصاً مع مسألة جريمة الشرف. فكان لمجالس العشائر دور كبير في حل كل الأمور ولا سيما المتعلقة بهذه الجرائم التي كانت خارجة عن دائرة الإحصائيات القضائية في فترة الخمسينات، فكانت القرارات العشائرية نافذة اجتماعياً تحت غطاء مجلس العشائر، إذ إن العشيرة كانت تتدخل لسحب الملف بغية حل المسألة توافقياً أو من خلال المقايضة، أو من خلال القانون الذاتي الذي يُستحدث وفق مقتضيات الحاجة. وقد امتد دور مجلس عشائر البقاع الشمالي لحل هذه المشاكل الى إهدن وبشري.
وخلال فترة الحرب الأهلية، تراجع هذا الدور لمصلحة الأحزاب والمنظمات المسلحة (1975- 1985 ) لترتفع معدلات القتل بتحصيل جرائم الشرف، حيث لم يقتصر ذلك على قتل الفتاة بل طال مختطفها، فتحولت بعد ذلك إلى جرائم متبادلة وفق مفاهيم الثأر.
أما في فترة (1998 – 2000) فقد تحول الضغط عن العشائر باتجاه الدولة التي أصبحت تعالج الكثير من هذه المشاكل، بينما بقي الجزء الأقل للعشائر. كما استطاعت الأحزاب أن تسحب القرار السياسي من أيدي المجالس العشائرية، لكن ذلك لم يغير معدلات ارتكاب الجرائم بحيث كثرت الاعتداءات على المرأة وقلت الشكاوى. وعن ذلك يرى الكرك أن تراجع نسبة جرائم الشرف إحصائياً وفق سجلات المحاكم «يعود إلى الوعي السياسي لدى الشباب وضعف القرار العشائري وانسحابه لمصلحة فئات سياسية وحزبية ومؤسسات الدولة فهذا الوعي مكّن الفتاة أكثر من معرفة حقوقها وواجباتها». كما أدّى تعديل القوانين دوراً في تراجع جريمة كهذه. في هذا الصدد يقول المحامي أنطوان ألوف «جرائم الشرف موجودة قانونياً حيث ألغيت أحكام العذر المُحل (يُبرأ مرتكب الجريمة بحجة الشرف ويعفى) وأُبقيَ على العذر المُخفف باعتباره جنحة». ويرى مفتي البقاع الشيخ خليل شقير المساواة بين الرجل والمرأة في جريمة الزنا، ويقول: «العقاب هو الرجم حتى الموت إذا توافرت شرائط تنفيذ العقاب فما كل من اتُّهم يُرجم، وليس تنفيذ العقاب من مهمات الأب او الأخ أو الزوج بل هو من مهمات الدولة، وما يتعاطاه بعض الشرقيين بجرائم الشرف هو واحد من رواسب المجتمع العربي التقليدي وليس له كبير ربط بالدين والقانون، وإن مفهوم القيم قد أخذ بالتغيير مؤثّراً بذلك على مفاهيم الشرف».
يجدر الذكر أن هناك أنواعاً أخرى من جرائم الشرف ترتبط بالبغاء وأن هناك من يتخذ صفة جريمة شرف لتغطية جريمة ما. فقد أظهرت دراسة اجتماعية عن جرائم الشرف المرتبطة بالبغاء، اعتمدت إفادات المخافر والسجلات القضائية من المحاكم، أن هناك قواسم مشتركة بين هذه الجرائم. فعندما تفقد الفتاة نضارتها وأنوثتها وتستنفد المبالغ التي حصلت عليها من البغاء، يتخذ أبوها او شقيقها قراراً بقتلها تحت ذريعة تحصيل الشرف. وهناك حالات من نوع آخر، عندما يقوم الأب أو الأخ باغتصاب الفتاة ابنة ً أو شقيقة «سفاح القربى»، يغطون جريمتهم بقتل الفتاة بحجة «غسل العار».
عبادة كسر - أسامة القادري
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد