جنوب الحدود غرب الشمس
يختتم الكاتب الياباني هاروكي موراكامي روايته "جنوب الحدود، غرب الشمس"، الصادرة بنسختها العربية لدى "المركز الثقافي العربي"، ترجمة صلاح صلاح، بمشهد بالغ الرمزية يتواءم تماماً وأجواء الرواية الدفينة والهادئة كبركان خامد: مطر يهطل بنعومة على سطح بحر شاسع، لم يره أحد، ولم يدرِ السمك حتى بهطوله. في وسعنا تناول عمل مماثل من زوايا متعددة: اللغة البسيطة والمتقشّفة، البناء غير المتكلّف والسرد الأفقي، النقل الأمين لحياة معاصرة معولمة يبدو نمط العيش الأميركي فيها جلياً...الخ. لكن أكثر ما يلفت في أسلوب الكاتب هو قدرته الكبيرة على التسلل إلى أعماق النفس البشرية من خلال أحداث عادية أو حتى سخيفة. ربما لهذا السبب تحديداً، يصف النقاد تقنية أحد أكثر الروائيين اليابانيين المعاصرين شهرةً بـ"السمّ البطيء".
بطل هذه الرواية شخص عادي، أي في اليابانية: ناجح، يمكن أن نصادفه كل يوم في الشارع من دون أن ننتبه، أو نشاهده قرب إشارة مرور فنُعجب بسيارته الحديثة، أو نرى صورته مع زوجته وابنتيه فنقول: يا للعائلة المثالية. شخص يشبه اليابان التي طوّرت نظام حياة "عمودياً" حديثاً، آمناً ولطيفاً، على أرض تهزّها الزلازل بشكل دائم وتتربّص بها الثورات البركانية، رغم أن الكاتب يحرص على رسم خط فردي شديد الخصوصية لهذا البطل، ولا يترك للعام أن يتسلل إلى مسار حياته إلا لماماً.
في وسعنا القول إن هاجيمي، ويعني اسمه "البداية" في اليابانية، رجل سابق لعصره بقليل، وهو أيضاً فيلسوف صغير يراقب نفسه وتصرّفاته ويحللها كما يفعل مع المحيطين به. شخص أتاح له كونه الابن الوحيد، أن يتذرّع طويلاً بحالته هذه، وأن يرتاح إلى تميّزه عن الآخرين، لا بل أن يجعل من هذه الصفة، صفة "الطفل الوحيد"، كلمة السرّ للتقرب من الجنس الآخر: كل النساء اللواتي تركن بصمات لا تمحى في ذاكرته كنّ هن أيضاً طفلات وحيدات في عائلاتهن. لكن، وعلى الرغم من كون هذه الصفة مادةً للتفاخر، فقد تحوّل أحد وجوهها عقدةً بالنسبة الى هاجيمي الذي يقول: "كرهت مصطلح "طفل وحيد". شعرت كلما سمعته أنني أفتقد شيئاً - كما لو أنني لست إنساناً كاملاً. كان مصطلح "طفل وحيد" يشير لي بإصبع اتهام ويقول لي: "ثمة شيء ينقصك يا رفيق". في العالم الذي كنت أعيش فيه، كان من المعروف أن الأطفال الوحيدين مدلّعون من والديهم، ضعفاء وأنانيون (...) وإن كان ما يؤلمني ويحبطني أكثر من أي شيء آخر: حقيقة أن كل ما يفكّرون فيه بي كان صحيحاً". العقدة ناجمة هنا، كما نلاحظ، عن مطابقة شخصية هاجيمي للصورة النمطية التي لدى الناس حول الطفل الوحيد، أي إلغاء تميّزه، بمعنى آخر شعوره بأنه منكشف أمامهم، هو الذي بنى شرنقة حول شخصيته ورعى طويلاً حديقته السرية التي لا يستطيع أحد، حتى والديه، أن يطأها.
هاجيمي المنطوي على نفسه والمعقّد في العمق، منفتح تماماً واجتماعي في الظاهر، لذلك، فإنه منذ صغره، يرى كل ظاهرة أو حدث في حياته بمنظارين: منظار الطفل الوحيد ومنظار كيف يرى الآخرون هذا الطفل، أي أنه متجاذَب بين وجهتين: الأنانية المطلقة والتفاني الكامل. هكذا، يطوّر عقد ذنب من دون أي شعور بالندم، كأن يخون صديقته مع فتاة وحيدة ويخبرها بأنه قد يكرر ما فعله لو عاد به الزمن إلى الوراء، ثم يسعى جاهداً الى مراضاتها والاعتذار منها، أو أن يخون زوجته مع امرأة وحيدة أيضاً ويرفض التخلّي عنها. في اختصار أكثر، هاجيمي الوحيد يحتاج إلى من يخلّصه من وحدته القاتلة ومن يذكّره بها. المخلّصات هنّ نساء غير وحيدات يمارس تفوّقه عليهن ، واللواتي يذكّرنه هنّ نساء وحيدات يخضعنه لغموضهن.
انطلاقاً من تميّزه الآنف الذكر، لن يرضى هاجيمي بمقاييس الجمال المعروفة، فلا تثيره فتيات خارقات يشبهن عارضات الأزياء، بل يسعى إلى شيء خاص جداً يمكن تسميته بالمغناطيسية. صديقته من أيام المراهقة، أزومي، مثلاً، كانت فتاة عادية "لم تكن جميلة بشكل خاص، ليس من النوع الذي تشير إليه والدتك في صورة الصف على أنها أجمل فتاة في المدرسة" وكذلك زوجته. وهو يشرح مبدأه على النحو الآتي: "لم أجذب دوماً لجمال خارجي قابل للقياس، بل لشيء أعمق، شيء مطلق. ومثلما يملك بعض الناس حباً خفياً للعواصف الماطرة والهزات الأرضية أو انقطاع النور الكهربائي، أحببت ذاك الشيء غير المحدد والموجّه لي من قبل الجنس الآخر". لكن، ومرة أخرى، سيختل هذا المقياس ويزدوج، فامرأة حياته شيماموتو جميلة للغاية وإن كانت عرجاء في طفولتها. شيماموتو هذه هي امرأة الخيال التي لا تتحقق، لأن البطل لا يريدها أن تتحقق حتى لو أوحى لنفسه بالعكس. المسألة عائدة إلى رغبته في بقاء الجمال مجرّداً بدل أن يصبح في متناول اليد، فيخاطب حبيبته: "أحياناً حين أنظر إليك أشعر بأني أحدّق بنجم بعيد. مبهر لكن الضوء آت من قبل عشرة آلاف سنة. ربما لم يعد النجم موجوداً. مع ذلك يبدو احياناً حقيقياً اكثر من أي شيء آخر (...) أنت هنا. على الأقل تبدين كما لو أنك هنا. لكن ربما لست كذلك. ربما هذا ظلك فقط. أنت الحقيقية في مكان آخر. أو لعلك اختفيت منذ أمد بعيد، بعيد. مددت يدي، لكنك اختفيت خلف سحابة من "ربما" كثيرة العدد". هذه الرغبة في صون حجب الغموض تدفع البطل إلى التفاعل مع المجرّد أكثر من تفاعله مع المحسوس، ففي حين يصف البار الذي يمتلكه ويدر عليه أرباحاً وفيرة بالسطحي والرديء و"المسرح المعدّ كي يتخلى السكارى عن نقودهم"، يرفع من شأن الموسيقى محاولاً تجسيدها: "مع تكرار الاستماع إليها تشكّلت صورة غائمة في ذهني، صورة ذات معنى. عندما اغلقت عيني وركّزت، جاءتني الموسيقى كسلسلة من الدوّامات. دوامة تتشكل وتخرج منها دوامة أخرى تتصل بها ثالثة. أدرك الان أن لهذه الدومات سمة فكرية مجرّدة".
ربما من الواجب أن نشير إلى ما يكشفه موراكامي من خصوصيات مجتمع ياباني يعيش انفصاماً غير حاد بين تقاليده المحافظة وأسلوب الحياة الغربي المنفتح. السؤال هنا، كما هو بالنسبة الى البطل هاجيمي، سؤال الأنا والآخر. لكن يبدو أن الآخر يحقق نقاطاً على صعيد اليابان ككل، فالأمركة لم تعد مستوردة ومكروهة، بل دخلت في النسيج الاجتماعي الذي أعاد صهرها وتطويرها بما يناسب احتياجاته. المسألة واضحة في الشق الأول من العنوان، "جنوب الحدود" وهو عنوان أغنية لنات كنج كول. المقصود بجنوب الحدود في الأغنية هو المكسيك، بينما المقصود في الرواية هو كل احتمال آخر: الحلم، الخيال، المجرّد. أما الشق الثاني، "غرب الشمس"، فمرتبط بالرغبة القاتلة في كسر الروتين، وهو مستوحى من مرض هيستيري في سيبيريا، الذي يجعل فلاحي تلك المنطقة القطبية الذين لا يرون سوى الأفق إلى الشمال والشرق وإلى الجنوب والغرب، يهجرون حياتهم الرتيبة ويسيرون من دون طعام أو شراب كالممسوسين نحو الغرب حيث تغيب الشمس، لتنتهي الرحلة بهلاكهم.
قد تكون "جنوب الحدود، غرب الشمس" فراراً نحو عالم الـ"ربما". لذلك، لا يمنحنا موراكامي نهاية متوقّعة، طالما أن الهرب من الأنا يصل دائماً إلى طريق مسدودة.
زينب عساف
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد