حنا مينة: خلّصونا من لعنة الحب الأُسَري!..
الأُسرة في سورية متماسكة، متحابة غالباً، لا يشوبها التعصب العائلي إلا نادراً، وهذا النادر نفسه، إلى ندرة تدريجية، يتطلبها، وقد يفرضها، الزمن في كتلته السائلة إلى أمام، كقانون موضوعي، لا يراعي، ولا يلتزم، بالرغبة البشرية، لأنه في جنف معها، وفي اتساق مع حركة التغيير، النافية للسكونية من جهة، والمدفوعة بقوة هذا التغيير الذي يقود إلى الاستقلالية الشخصية من جهة أخرى.
لقد ولّى، الى غير رجعة، زمن التجمع العائلي في دار واحدة، على رأسها رجل واحد، يدعى رب العائلة، وتحت جناحيه الأُسرة كلها، بصرف النظر عن كونه عادلاً أو جائراً، مادام الزمن في سيرورته إلى أمام، قد أصبح محكوماً باستقلال الشخصية، فرداً وعائلة كحالة موضوعية، لا مناص من مراعاتها، ولا بديل من الخضوع لها.
إن الأسرة، حتى في تجزّئها، مابين كبيرة لها رب واحد، وصغيرة لها أب واحد، تمتاز في هذا الشرق بعامة، وفي الوطن العربي بخاصة بما يمكن أن نسميها «الإشتراكية العائلية» لأن فيها من لا يعمل ويأكل، ومن لا دخل له بسبب البطالة أو المرض أو الإعاقة البدنية، وتؤمن له «الاشتراكية العائلية» هذا الدخل، ضئيلاً كان أم وفيراً إلا أن ذلك لا يتعارض مع الوضع الجديد للعائلة، في استقلاليتها التي انتهى معها الوضع القديم، في الدار الواحدة، ورب الأسرة الواحد.
هذا من زاوية الإيجاب، إلا أن الإيجاب معه السلب، وبذلك تتم المعادلة الأُسروية، مهما يكن حظ الإيجاب أو السلب فيها كبيراً أو صغيراً، وهذا كله في جانب، والعصبية العائلية المقيتة، وحتى البغيضة في جانب آخر، وكمثل على ذلك، فإن التحرر من هذه العصبية، لابد له من جهد، ومن تعلّم، ومثابرة، ومن ارتفاع عن قضية الهُلبيّة، أي إن هذا الولد، من صلب هذا الإنسان، فلابد لهذا الإنسان أن يكون مع ولده الذي هو من صلبه، في الحق والباطل معاً، وغالباً في الباطل، سواء في آفة الثأر، أو آفة القبلية، أو الغيرية الشرفية الكاذبة، التي تكون الأنثى ضحيتها، فيسفك دمها، دون مراعاة للواقع الفعلي أو الشبهة، امتثالاً لمقولة الرجعي في شعر من زعم «لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى/ حتى يراق على جوانبه الدم» وفي مطاوي هذه المقولة، الكثير من المآسي، لأن مرتكب الجرم، كثيراً ما يكون شريراً، متستراً، يزعم الانتقام للشرف نجدة من جرم كيدي بعيد عن كل الشرف، متناسياً عمداً مقولة «ادرؤوا الحدود بالشبهات» أو الآية الكريمة ûوإذا الموءودة سئلت، بأي ذنب قتلت عائداً بنا إلى الجاهلية التي فضح زيفها، وكفّ ضلالتها، وقضى على ظلمها رسولية الإسلام «دين الله الحنيف».
وأنا لا أدري أين قرأت هذه الواقعة: كاتب قيل له أنت أب، وأنت كاتب، فلابد لك من محبة كل أولادك، وكل كتبك، فأجابهم: «اسمحوا لي أن أكون صريحاً معكم، فأنا لا أحب أولادي ولا كتبي، بل أتعلم، وهذا صعب جداً، أن أحب أولاد الآخرين،وكتب الآخرين، إذا كان هؤلاء الأولاد أفضل من أولادي، وهذه الكتب أفضل من كتبي».
في قصيدة الأطلال للمرحوم ابراهيم ناجي، هذا البيت الشعري: «فتعلّم كيف تنسى، وتعلم كيف تمحو» وأشهد أنني، قبل سماع هذا البيت من الشعر، أو بعده، لا فرق، كنت تلميذاً في مدرسة «تعلم كيف تنسى» ولا أزال حتى الآن في الصف الأول من هذه المدرسة، رجوة أن أترفع، في هذه السنة أو التي تليها، إلى الصف الثاني، ومن أمنياتي، أو الأفضل في هذه الأمنيات، أن أحصل على الشهادة الابتدائية، في مدرسة تعلّم النسيان، قبل أن أستلقي على ظهري في مركبة الموت التي تشيل بي، على هون، إلى حيث التراب الذي جئت منه، وإليه أعود!
لقد علمتني الحياة، ألاّ أكتفي برؤية الحجر، حتى لو كان رخاماً أبيض، بل أُياسر في جهد مستطاع، أن أقلّبه لأرى ما تحته، وغالباً أجد ما تحته غير الذي فوقه، فالبياض الظاهر، يغاير السواد المستتر، وليس في هذا أيّ عجب، أو أي غرابة، لذلك علينا أن نبحث في الشيء عما وراء الشيء، وفي الخبر عما وراء الخبر، وفي اللوحة على واجهة بيت، أو متجر، عما تخفي هذه اللوحة، فقد نجد الأمور متطابقة أو متخالفة، ونظفر، في الحالين، بمعلومة ما، وهذا شأن الكاتب، وهذا دأبه، إذا ما أراد أن يكون صادقاً مع نفسه أولاً، ومع قرائه ثانياً، ومع مجتمعه ثالثاً، ذلك أن «العيش جميل يا صديقي» كما قال ناظم حكمت، ويكون هذا العيش أجمل، أفضل، أنفع، إذا ما كان مع الناس وبينهم، ففي الأمثال أن البيوت أسرار، وقد تغيرت، في زمننا الرديء هذا البيوت وأسرارها، وكم من عانس اليوم، قد كانت صبية بالأمس، لكنها حُرمت من نعمة الزواج ومتعته، بسبب أثَرَة الأهل، الذين كانوا، وربما لا يزالون، حريصين على المال، أو الثروة، أن تنتقل، ولو في جزء منها، إلى الغير، مع انتقال هذه الأنثى، من أسرة أهلها، إلى أسرة زوجها، وفي هذا تخصيص قابل للتعميم، أو افتراض لا يجانب الواقع، ومنه وفيه، لعنة الحب الأُسري، التي لامست بعض جوانبها، مادية ومثالية، وأبغض ما فيها، العصبية المقيتة، فهذه أسرة تعرف أن أحد أفرادها يكذب، أو انه كذوب، ومع ذلك تصدقه وتنفي، في محاولة بائسة، صدق الآخرين الذي قد يكون دامغاً!
إن الأمثال، وكذلك الشواهد، كثيرة في الموضوع الذي تتناوله هذه المقالة، وكلها تدور حول «لعنة الحب الأُسري» وأحسب أن ما قالته السيدة فيروز «كلما أطلت له في الحديث يختصر» يصح هنا، فغاية الكاتب الإيجاز الذي يغني عن الإفاضة، والاختصار ضروري في المقالة، كيلا تنقلب الى دراسة، الصحيفة ليست مجالها، وربما كان الايماء أبلغ من القول، وهذا ما يعرفه العشاق «الخلّيّون أومؤوا بيديهم، ويطرف اللواحظ العشاق» ومع أن زمن العذل والعذال مضى، فقد لاحظ المتنبي أن رواسبه لا تبرح قائمة «إذا خامر الهوى قلْبَ صبِّ/فعليه من كل عين دليل» إنما الشباب وهم عدة المستقبل، أحسنوا في الأخذ بما يجانف ذلك «ولا تخافي عذولاً، فالعذول مضى، والعصر سكران، يا أخت الشقا، تعب» والحق أننا إذا لم نكن في السكارى، فإننا في التعب، سعياً وراء الرغيف، سواسية.
لكنني، في العصبية الأُسروية، ماكنت في التكرار، حتى لو وقع تثبيتاً وتأكيداً لما أقول، في الراغبين بالتزيّد، عرضاً للمعارف، وهي بدرجة وسطية لا أكثر، أو في الإبهار وهذا ذميم ونافل، غير أنه، وهذا مفيد لنا ولغيرنا، علينا ألا ننجرف مع العاطفة الأبوية، أو العاطفة الأمومية خصوصاً، أو الحماسة الزوجية وما فيها من خطر «النفاثات في العقد» ومن الإحسان والإيمان أن نذكر، ونذكّر بالآية الكريمة ûيا أيها الذين آمنوا، إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم، فاحذروهم، وإن تصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم وكما حذرت والحذر من علم النفس على صلة وثقى، من الانجراف في حب الأسرة، أحذر من الغفلة، ومن الضلالة، ومن التسرع في تصديق ما نسمع، لأننا في زمن رديء، ومن رداءته أن الكثيرين بيننا، أصبحوا من باعة الكلام لا الأفعال، وفي هذا عبرة يحسنُ بنا أن نتوقف عندها، وأن نتدبرها، ونفيد منها قدر المستطاع، وهذا، في السياسة، جوهرها، وفطنتها!
حنا مينة
إضافة تعليق جديد