حنا مينه: أعطني فناً.. أعطك متذوقاً فنياً!
ليس في وسع أحد، بعد المتغيرات التي هزت العالم، أن يزعم أنه يملك الحقيقة الكلية.
هذا الإطلاق التجريدي، في الفلسفة، صار وراءنا، حلت محله اللا إطلاقية، مبشرة بزمن آخر، زمن النسبية، فالحقيقة التي زعم بعضهم، طوال سبعين من السنين، أنه لايملكها كاملة، مطلقة، تكشف عن كذبة كبيرة، وتكشف معها مكر التاريخ، هذا الذي ينسرح على الفلسفة، بماهي، مفسرة للتاريخ، ومغيرة له أيضاً، وصار في حكم اليقين الآن، أن الحقيقة نسبية، وأن أشياء الوجود كلها نسبية، وفي ضوء هذه النسبية تعود الديالكتيكية (الجدلية) لتأخذ موضوعيتها الشرعية، بعد أن أخذت، في القرن التاسع عشر، موضوعيتها العقلانية، حين جاء ماركس فأوقف المثالية المادية لدى هيغل على قدميها، بعد أن كانت واقفة على رأسها!
وانطلاقاً من هذا الفهم النسبي، ومن إيقاف بعض المفاهيم على قدميها بدل رأسها، نحتاج إلى إعادة نظر في كثير من المقولات التي باتت شبه مسلمات، في الفلسفة كما في الأدب والفن لدى قائليها ومن تجاريهم وحتى يشايعهم في الفهم الخاطئ للأمور ومنها الشكوى العامة، أو المعممة، من بلادة ذهن المتلقي أمام معطيات المؤدي، ففي الفلسفة يتكاثر المنظرون المتفلسفون، الزاعمون أن تنظيراتهم لاتجد تربتها الصالحة للنمو، وفي الأدب يعلو صراخ بعض الأدباء من فقدان القارئ، الذي يأخذ عنهم أدبهم ومايروّجون، وفي الفن يشق غير قليل من الفنانين قمصانهم، نادبين حظ الفن لأنه لايجد متذوقيه، ونحن نعترف أن ثمة نقصاً في القرّاء، وفي المتذوقين للفن، لأسباب باتت معروفة، منها تفشي الأمية في الوطن العربي، ونسبتها المرتفعة في بعض بلدانه، وتدني الطاقة الشرائية لدى شرائح عريضة في المجتمع العربي، بسبب البطالة والفقر ومحدودية الدخل، وجهل، أو جهالة، شرائح أخرى في هذا المجتمع، تملك إمكانات كبيرة، وثروات وفيرة، بحيث تستطيع أن تقتني، في دورها وقصورها، العديد من الثلاجات، والغسالات، والتلفازات، وكل مبتكرات العصر الإلكتروني، وتكدسها دون ضرورة، ودون فائدة، في الغرف والصالونات، دون أن تعير اهتماماً لاقتناء كتاب أو لوحة أو آلة موسيقية، ودون أن تكترث بإنشاء مكتبة، بغيرها لاتستقيم حاسة الذوق السليم في مجال المعرفة، وهي واجهة حضارية في زمن تنافس الحضارات هذا.
هذا وجه واحد للمشكلة، أما الوجه الآخر، الأهم، فهو القصور الملحوظ لدى المفكرين والأدباء والفنانين العرب، الذين لا يتوقفون ليطرحوا على أنفسهم سؤالاً بات ضرورياً، مفاده: لماذا الأمر كذلك وليس غير ذلك؟ وهل العلة فيهم كمؤدين، أم العلة في الناس كمتلقين؟ وما هو السبيل الأقصر لتلافي هذه العلة عن طريق مداواتها بشكل صحيح؟
في الجواب، وحقيقته نسبية طبعاً، يمكن القول إن العلة، إضافة إلى ماسبق، تكمن في فقدان أداة التوصيل بين هؤلاء المؤدين وأولئك المتلقين، ففي الفكر تروج كتب وتكسد أخرى، ولايصح، هنا، أن نردّ بالقول: لماذا لايفهم القرّاء مايقرؤون؟ إن الطلاسم، والحذلقات، والمصطلحات العويصة لأنها مترجمة بغير وضوحً، والتنظيرات المغلفة بالإبهام، وضبابية الأفكار في رؤوس حامليها، تقيم سداً بين القارئ والكاتب، وليس يجدي أن نرمي هذا القارئ بالغباء، مادام يفهم، ويقبل على الكتب الفكرية التي تملك وسيلة توصيلها إليه، ومانقوله عن الفكر المبهم كجنس أدبي، نقوله، أيضاً، عن الرواية كجنس أدبي آخر، فالقارئ موجود، ولو بشكل محدود، وهو يشتري ويطالع بشغف روايات وينبذ أخرى، والشيء ذاته فيما يتعلق بالشعر، وبرهاننا شعر المرحوم نزار قباني، الذي أوجد اللغة الثالثة، وانتشر بشكل يبعث على الدهشة، في وقت يكسد فيه شعر الكثيرين، حتى أن دور النشر الكبرى والصغرى، ترفض نشر ديوان أو مجموعة شعرية، إلا على نفقة الشاعر، أو نصف النفقة على الأقل، بينما تنشر الرواية على نطاق واسع مؤلفة ومترجمة.
لقد قرأت تصريحاً للموسيقار العربي المعروف فيكتور سحاب، ينعي فيه حاسة التذوق الموسيقي لدى الإنسان العربي، وهو يطالب بوجود المتذوق للموسيقا كي تكون هناك موسيقا، وهذا مطلب يضع القضية على رأسها بدل قدميها، فالأصل أن توجد الموسيقا كي يوجد، ولو تدريجياً، المتذوق لها، ومانقوله عن الموسيقا نقوله عن الفن التشكيلي، رسماً ونحتاً، ونقوله عن الفنون كافة، هذه التي دون أن تكون أولاً، لن يكون متذوقوها تالياً، ومن عجب أن تغيب هذه البدهية عن الأذهان، وأن تقود، بطرحها الخاطئ، إلى تعطيل إنتاج العملية الفنية، أو التقليل من إنتاجها، والضرر، في الحالين، يطول الثقافة بما هي معرفة، ويطول المعرفة بما هي تنوير، ويطول التنوير بما هو انتشار ثقافي يعطي، في تراكمه، حضارة لابد منها في التواصل الحضاري بين الأمس واليوم، وإلا مانفع هذا الكلام الكثير عن القرن المقبل، وما ينبغي لنا من استعداد لدخوله على النحو الجدير واللائق؟
قبل أكثر من مئة عام، كانت في مصر دار للأوبرا، احترقت في النصف الأول من هذا القرن، فانشأت مصر بدلاً عنها داراً جديدة للأوبرا، وهذا، في الإحداثات الحضارية، إحداث حضاري بامتياز، والذي يستقرئ التاريخ الثقافي لمصر، يدرك بسهولة أن إنشاء الأوبرا القديمة في القاهرة، قبل مايزيد عن قرن وربع، كان مغامرة في رأي الكثيرين، وتقديم أوبرا «عائدة الشهيرة»، في هذه الدار، كانت مفاجأة، في نظر الذين لايحسنون سبر الذائقة الفنية الشعبية، وسأفترض أن الذين حضروا أوبرا عائدة، في زمنها المبكر، كانوا من الطبقة الثرية، المتنورة، تلاهم المثقفون، ولحق بهم أنصاف المثقفين، ثم أفراد قلائل من أبناء الشعب المصري، ومع الأيام، وتوالي العروض، نما التذوق الفني واتسع، وصار إنشاء دار للأوبرا، وتقديم أوبرا عائدة وغيرها عليها، من الأمور المستحسنة، المرغوبة والمطلوبة، وأخذ الإقبال يزداد، برغم معارضة الجهلة، والمتزمتين، والذين تحجرت قلوبهم، وتكحلوا بالظلمة وقصر النظر، وهذا مثال لايحتاج إلى برهان، على أن الفن يسبق، والتذوق الفني يلحق، وليس العكس.
ومانقوله عن دار الأوبرا ينسرح على الفرقة السيمفونية، فقبل إنشاء هذه الفرقة في مصر، في وقت مبكر من القرن العشرين، ثم إنشاء الفرقة السيمفونية في الربع الأخير من هذا القرن في سورية، كان ثمة تشكك في النجاح، وفي المعطى الفائدي، وفي إقبال الناس، والذريعة هي نفسها: انعدام الذائقة الفنية، إلا أن النجاح الكبير لأمثال هاتين الفرقتين، قد أدهش الجميع، لأن الشعب العربي، في مصر وسورية وسائر البلاد العربية، لاتنعدم لديه الذائقة الفنية، وهي تنمو باطّراد وتتسع قاعدتها يوماً بعد يوم وفي هذا دليل آخر على أن الإنتاج الفني يسبق ويخلق التذوق الفني وليس العكس أيضاً.
إن الثقافة، والفن بعض نتاجها، هي واجهتنا الحضارية، وكل إحداث فني، هو قيمة أخرى، تنصاف إلى القيم الحضارية، والمسألة، أولاً وأخيراً، في وضعها على رجليها بدل رأسها، ويبقى الشعار الصحيح هو: «أعطني فناً.. أعطك متذوقاً فنياً!»
حنا مينه
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد