حنا مينه: أمي وغسيل السمك ودموعي
سأخرط الكلام كما يخرطون الكوسا, بعد أن تاب الله عليّ من الأنق في الكلام, إكراماً لروح صديقي الطبيب الإنساني نبيه رشيدات, الذي استنكر إمعاني في الأناقة,.
والغرابة في قولي (إذأب كما ذئبوا) فقال: (كل الناس وكل الكتاب, يقولون: إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب) وأنت تغرّب وتشرّق, دون أن ترضي الغرب والشرق, متمسكاً بما تزعم أنه (القياس والاشتقاق) وهذا يا رفيق العمر, في السراء والضراء, شغل النحويين لا شغلك أنت, يا كاتب الحكايات!.
وجواباً على نصائح صديقي نبيه رشيدات, رحت أخبص كما يفعل غيري, إرضاءً له, وعملاً بالمثل القائل (سوق.. مع السوق), والسوق في الزمن الرديء هذا, ينص بالرداءة, فماذا أفعل؟ عمدت على الاتكاء على كتف غيري, الرحبانيين مثلاً, وليس في هذا ضرر أو أذىً لمن قال: (جاءت معذبتي في غيهب الغسق, كأنها الكوكب الدري في الأفق, فقلت نورتني يا خير زائرة, أما خشيتِ من الحراس في الطرُقِ, فجاوبتني ودمع العين يسبقها: من يركب البحر, لا يخشى من الغرق,) وأنا ركبت البحر في كل مكان, وغامرت في مصيف بيتاخو, غير مبال بأسماك القرش, التي تسرح وتمرح في المحيط الهادي, وكانت النتيجة أن الجرَاح زيّنت صدري بالأرجواني من الدماء, وعليَّ, بناء على الأوامر, أن أدخل المستشفى, فقلت: لا! وفي الصين, في الستينيات, ينبغي أن تقول: نعم, وإلا طردوك من المعبد البوذي.
ولأنني تبت عن السياسة, أو تابت هي عليّ, أو كانت التوبة نصوحاً, كما ينبغي أن تكون, نسجاً على منوال, عميد الأدب العربي المرحوم طه حسين, فإنني أورد هذه الحادثة:
كان اسبيرو الأعور, في اسكندرونة, من البلشفيك والعياذ بالله, وكنت, ليلاً أذهب إليه وأقرأ له المنشورات الثورية, وفي يوم اشتدت فيه حملة الفرنسيين المستعمرين, ضد البلشفيك من جميع الأنواع, فقد طلب مني اسبيرو الأعور أن أخفي المنشورات عندي, لأن أحداً, من الفرنسيين أو أذنابهم, يشك فيّ ولد لا يزل في طور المراهقة, وأخذت المنشورات وأخفيتها في حرشة أمام البيت, دون أن يدري بها أحد, إلا أن المرحومة مريانا ميخائيل زكّور, وهي أم الداعي التي لم يرزقها الله ذكراً غيري, غسلت السمك وألقت ماءه الزنخ على الحرش, فتبللت المنشورات وصارت خبصة من عجين الشوفان الأسود.
أمي تأسفت على ما حدث, وبكيت أنا الخروف الضال, وكذبت فقلت: إنها أوراق فروضي المدرسية, ولأجل عيوني أنا وحيدها, أخرجت الأوراق من الحرش, وزادت فقامت بغسلها بالماء والصابون, حتى لم يبق أمل في إنقاذ هذه الخبصة, يا حسرة.
في المساء ذهبت إلى معلمي اسبيرو الأعور, وحكيت له عما جرى (لأهل الورى في المقشرة). فطيّب خاطري وقال:
ـ أحسنت أمك ياحنا!.
ـ أحسنت !؟.
ـ أي والله أحسنت! هذه الأوراق ننسخ لها بدائل كثيرة, وكنت سأحرقها فأنقذتني أمك, أنقذها الله من جهنم ونارها!.
حنا مينه
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد