حنا مينه: أنتم تسألون عن حياتي.. وأنا أجيبكم! (1 ـ 3)
بلغت الثمانين من عمري، في 9 آذار 2004، وحتى هذا التاريخ كنت أخدع نفسي، أو تخدعني نفسي، فأقول للناس، وللقراء الأعزاء أيضاً إن السبب في شهرتي كروائي، وسعة انتشاري في وطني العربي، وفي العالم كله، مردّه إلى الحظ، فأنا محظوظ جداً يقرؤني الفقير والأمير، وإنني، في سعة الانتشار، أكاد أقترب من سعة انتشار الشاعر المرحوم نزار قباني، وفق بيانات (دار الآداب) العريقة بين دور النشر في لبنان كله، وربما في الوطن العربي كله.
وقد سألتني سيدة مليحة، تحمل شهادة دكتوراه في تربية الأطفال، وهي رئيسة قسم الأطفال في وزارة الثقافة السورية، عن الانتشار الواسع هذا، فأجبتها:
ـ الحظ ياسيدتي!
قالت:
وبعد الحظ؟
الحظ ولا شيء، آخر!
ـ لا! هناك شيء آخر فما هو؟ أجبني بصدق.
قلت بغرور:
ـ ما أريده أن يكون، يكون فعلاً!
سكتت السيدة، بعد أن أدهشها جوابي، لكنني أنا، عند بلوغي الثمانين شتاءً أدركت أنني كاذب في أمرين: الأول أن ما يقال عن ذكائي تهمة باطلة ستنكشف في يوم من الأيام، والأمر الثاني انني غير محظوظ، لأنني نكبت في ثلاثة أجيال من عائلتي، ولا أزال رازحاً تحت نير أخطائي الكثيرة، غير المبررة بأي وجه، وأنني أحمل صليبي في طريقي إلى الجلجلة، وأتألم من ثلاث عاهات أولاها معدتي التي لا ينفع فيها دواء، لأن بها كسلاً في الأمعاء، وتشنجاً في الجهاز الهضمي، وثانيتها نتوءات عظمية في ظهري، أكاد أصرخ من ألمها، وثالثتها ركبتي اليمنى، وما فيها من جفاف، لهذا ينصحني الأطباء أن أكتب ساعة واحدة، أستريح بعدها، وأنا أعاند وأكتب ساعات متواصلة.
ماذا أسمي هذا كله؟ وهل أحيلكم إلى رواياتي فأتعبكم؟ الأفضل أن أعرض الأمور بإيجاز، قدر المستطاع وأن أحدثكم عن حياتي الأدبية، وكيف بدأت، وعن نشأتي الأولى!
إنني لم أكن أتصور حتى في الأربعين من عمري، أني سأصبح كاتباً معروفاً، فقد ولدت كما هو معروف عني، بالخطأ، ونشأت بالخطأ، وكتبت بالخطأ أيضاً، ولنبدأ بالكلام عن حياة الطفولة، هذه التي أصبحت بعيدة جداً الآن، وكل ما أذكره عنها أنني بدأت رحلة التشرد وأنا في الثالثة من عمري، وهذه الرحلة من حيث هي ترحال مأسوي في المكان، عمرها الآن ثمانون عاماً، أما رحلتي في الزمان، فهي أبعد من ذلك، وستبقى ما بقيت، بسبب من أن التأمل، التلفت، الاستشراف، تمثل الوعي الأول للوجود، وكل هذه الذكريات التي تنثال في الخاطر، أصبحت مرنقة الآن، وأنا ألعنها لأنها تغتالني بلا رحمة!
والدتي اسمها مريانا ميخائيل زكور، وقد رُزقت بثلاث بنات كنّ بالنسبة لذلك الزمان ثلاث مصائب، عانت منهن الكثير الكثير، فالوسط الفقير إلى حد التعاسة، كان يشكل عقلية سلفية بالغة القسوة، وقد تعاون هذا الوسط وما فيه من ظلم ذوي القربى، على إذلال والدتي، باتهامها أنها لا تلد إلا البنات، وكان المطلوب أن تلد المرأة الصبيان، وفي الأقل الأقل، أن تلد صبياً بعد بنت، لكن القدر شاء أن تحمل وتلد البنات الثلاث بالتتابع، الأمر الذي كان يحمل إليها مرارة الشقاء، بالتتابع أيضاً.
وستقول لي أمي، حين أكبر: (اسمع يا حنا! أنت ابن الشحادة، فقد شحدتك من السماء، منذ تزوجت أباك، وفي كل مرة كنت أحمل فيها، كانت السماء تعاقبني، فأرزق ببنت، أنا التي كنت أسألها الصبي، أسألها أنت، وأنت لم تأت إلا في الحمل الرابع، الذي بكيت فيه من الفرح، بينما كنت قبل ذلك أبكي من الحزن، لقد منحتني السماء إياك بعد طول انتظار، وطول معاناة، لكن المنحة كانت حتى مع الشكر منحة مهددة بالأمراض، والخوف عليك منها، ثم الدعاء إلى الله في أن تعيش كرمى لي، حتى لا أعيش الخيبة من جديد، وهذا ما حدث فقد ولدت عليلاً، ونشأت عليلاً، وكان الموت والحياة يحومان حول فراشك، الذي كان طرّاحة على حصيرة في بيت فقير إلى حد البؤس الحقيقي.. كنت شمعة تنوس ذبالتها في مهب ريح المرض، وكنت أسأل الله وأنذر النذور، وأسال الريح، بكل ما في الابتهال من ضراعة، ألا تنطفئ الشمعة التي كنتها، حتى لا افجع فجيعة تودي بي إلى القبر، وشاء الله سبحانه وتعالى، أن تعيش في قلب الخطر، وهذا الخطر لازمك حتى الشباب، وعندها تحول من خطر الموت إلى خطر الضياع، في السجون والمنافي، هذه التي أبكتني بكاءً مضاعفاً خشية ألا أراك، وأنت تعطي نفسك للعذاب في سبيل ما كنت تسميه التحرر من الاستعمار الفرنسي، وتحقيق العدالة الاجتماعية!).
هكذا ولدت في قلب الخطر، وترعرعت في جوف حوته أيضاً، وناضلت ضد هذا الخطر بلا هوادة، فكان المبدأ الذي شببت عليه عاملاً أساسياً في شفائي الجسدي والنفسي، لذلك قلت يوماً، بعد أن صرت كاتباً: (أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين) فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذته القصوى، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحيوات الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً، لكنك تؤمن في أعماقك ان إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يُضحى في سبيله ليس بالهناءة وحدها، بل بالمفاداة حتى الموت معها أيضاً.
إن وعي الوجود عندي، ترافق مع تحويل التجربة إلى وعي وكانت التجربة الأولى، في حي (المستنقع) الذي نشأت فيه في اسكندرونة مثل التجربة الأخيرة، حين أرحل عن هذه الدنيا ومثل تجربة الكفاح ما بينهما، منذورة كلها لمنح الرؤية للناس لمساعدتهم على الخلاص من حمأة الجهل، والسير بهم، ومعهم نحو المعرفة، هذه التي هي الخطوة الأولى في (المسيرة الكبرى) نحو الغد الأفضل.
لقد تقضى العمر في حلقاته المتتابعة، بشيء جوهري لدي: هو تحقيق إنسانيتي، من خلال تحقيق إنسانية الناس. أنفقت طفولتي في الشقاء، وشبابي في السياسة، ولئن كان الشقاء قد فُرض علي من قبل المجتمع، فعشت حافياً، عارياً، جائعاً، محروماً من كل مباهج البراءة الأولى، فإن السياسة نقشت صورتها على أظافري بمنقاش الألم، فتعلمت، مبكراً كيف أصعّد الألم الخاص إلى الألم العام، وكيف أنكر ذاتي، وأنتصر على رذيلة الأنانية، وكل اغراءات الراحة البليدة التي توسوس بها النفس فكان الإنسان في داخلي، إنساناً تواقاً إلى ما يريد أن يكون لا إلى ما يُراد له أن يكون.
وكان المحيط الاجتماعي الذي نشأت فيه بتمام الكلمة أمياً، متخلفاً، إلى درجة لا تصدق.. لم يكن في حي المستنقع كله من يقرأ ويكتب، كان سكان هذا الحي والأحياء المجاورة من المعذبين في الأرض الباحثين، دون جدوى عن الخلاص، وعن العدالة الاجتماعية التي لا يعرفون اسمها بعد!.
لكنهم سيتعلمون تدريجياً، سيعرفون ان الفقر ليس من الله جل جلاله، وسأقول لهم، ما قاله الصحابي عمر بن الخطاب (ما اغتنى غني إلا بفقر فقير)، وان الذين فوق ليسوا سيئين كلهم، وان الذين تحت ليسوا فضلاء كلهم وان الإيمان بالله كالإيمان بالمبدأ!.
حنا مينه
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد