خمسون عاماً على غياب الفنان دييغو ريفيرا
قد تصعب الكتابة بشكل موضوعي عن الفنان المكسيكي دييغو ريفيرا، اذ انه من أكثر الفنانين تناقضا مع ذاته ومن أشدهم تنكيلا بمحبيه! ليس هذا فحسب، بل كل ما يشكل، ولسوء حظه، عنصرا مهما في حياته، يقع حبيس فلكه الأحمرالقاتم اللون والجارح الملمس. ربما في ذكر اسمه استحضار لشخصية جان باتيست غرونويي في رواية "العطر" الغرائبية للكاتب باتريك زوسكيند. فهذه تذكّر كثيرا بشخصية الفنان وبشكله الخارجي، الذي يستحيل أن يقف المرء حياله لامباليا. فهو اما محب وإما كاره له. وهنا تكمن قوة هذا الفنان.
كثيرون من الذين اطلعوا على سيرة حياته وفنه، وجدوا أوجه مقاربة عدة بينه وبين شخصية جان باتيست. فكلاهما جرت ولادته في ظروف غامضة ودامية على اكثر من صعيد. وكلاهما احدث جروحا ملتهبة في نفوس المقربين. وكانت الأنانية شبه المطلقة، الوقود المحرك لإبداعهما. ابداع محموم، صال وجال ذهابا وايابا كوحش ملبوس بشيطان، اما تحت أقواس السحر وإما عند مناكب الشر الفطري، على نحو ما يجري في قصص مهولة وعتيقة عتق الزمن.
ففي حين كان لجان باتيست موهبة التعرف الى الروائح حتى تلك الأقل نفاذا، والقدرة على ابتكار عطور "بشرية" بعد التخلص من أصحابها، كانت لدييغو ريفيرا الموهبة الفنية الفذة في اعادة احياء تاريخ المكسيك المحروث بشبح الموت، هذا الذي يرمز الى البداية والأمل في المعتقد المكسيكي، والموشوم بفنونه الأصيلة النابعة من حضارات عريقة كحضارة الأزتيك. وكانت موهبته تلك مفزعة شأن موهبة جان باتيست، اذ كانت اشبه بعشبة برية جذابة ذات اشواك تنمو لتغرز فتشرب من دون ان ترتوي من دماء اللواتي اغرمن به، أو عكفن على تربيته بعد الأنهيار العصبي الذي أصاب والدته.
لعل من المتعذر الكتابة عن الفنان من دون ذكر ظهور المرأة في حياته. نقول ظهوراً لأن من المعروف ان دييغو ريفيرا ترعرع مدللا وسط نساء (عمّتاه، مربيته، وشقيقته) ملأن تفكيره بأغرب الأساطير. تزوج اربع مرات وكان في كل مرة يحسن جلب التعاسة الى داره بسبب خياناته المتواصلة وفي احرج الأوقات. فعلى سبيل المثال نذكر زوجته الأولى أنجلينا بيللوف التي قال يوما عنها: "لقد وهبتني كل ما يحتاج رجل من امرأة وانزلتُ بها كل ألم ممكن ان يلحقه رجل بامرأة".
ولد لريفيرا طفل من عشيقته، مباشرة بعد موت طفله من انجلينا. ويجدر الذكر أيضا أنه رزق في حياته بأكثر من طفل غير شرعي لم يعترف بهم جميعا. أما زوجته الأخيرة والأهم بالنسبة اليه، فريدا كاهلو، والتي كانت تصغره بأكثر من عشرين عاما، فعانت خياناته وبرودة اعصابه الى حد لا يطاق، لكنها خلافا لزوجاته السابقات ردّت له الصاع صاعين، في أن خانته مع رجال ونساء على السواء، نذكر منهم ليون تروتسكي، لكنها بقيت تحبه حتى النهاية. تعتبر خيانته لها مع شقيقتها وهي كانت لا تزال في المستشفى تتعافى من حادثة اجهاض، جرحا نازفا لم يفارق لوحاتها. للفنانة لوحات رائعة يظهر فيها دييغو المعشوق بألف طريقة وطريقة، كشعلة مقدسة تدور حولها حتى حد الأحتراق.
"كلما ازداد حبها لي، ازدادت رغبتي في تعذيبها"، قال ريفيرا يوما عن فريدا كاهلو. ولم يتوان عن أن يكتب في مذكراته عن وصفات طعام "خاصة" تذوقها واحب مذاقها، مكونة من جثث نساء جميلات.
كيف يمكن بعد ذلك أن لا نرى في جدارياته كابوسا مخيفا يريد أن يغتسل بذاته فلا يخرج الا اكثر احتقانا واحمرارا؟ اعتبر احد النقاد ان الفنان يظهر في جدارياته ولوحاته المختلفة كائنا خائفا من الفراغ، اذ يحشد في لوحاته الكثير من التفاصيل.
كان الأبرع بين الفنانين المكسيكيين، إذ عرف كيف يختصر تاريخ المكسيك العريق والمتشعب في جداريات شكلت رصيدا فنيا لا مثيل له في تاريخ وطنه.
لا تعج جداريات ريفيرا بألوان المكسيك الحارة ومزركشاتها المتنوعة فحسب، بل هي أيضا تعبير واع عن ولائه للثورة الشيوعية ومرآة سرية لطبيعته النزقة. وربما هي حصاد شعائري مهيب لدماء فريدا كاهلو المسفوكة في اغلب لوحاتها ألما جسديا وحزنا على رخام قلبه الأملس. اللافت أيضا ان تلك الجداريات تحمل نسيجا مشبعا بلون اصفر "عصابي" وبأحمر قاتم يشير الى قصة ولادته المحاطة بالغموض. قيل ان دييغو ولد في الثامن من كانون الأول، وقيل أيضا إنه قد يكون ولد في الثالث عشر منه. أقرب المقربين اليه لا يذكر تماما اي يوم كانت ولادته، لكن من المؤكد عندما اعتقدوا أنه ولد ميتاً، أن أحدى النساء المشرفات على الولادة شقّت احشاء طيور من اليمام ووضعته في داخلها ليتلوث بدمائها وأخذت تتلو عليه كلمات سحرية اريد منها اعادته الى الحياة. قيل ايضا أن ولادة دييغو ريفيرا كادت تتسبب بموت والدته بعد نزف حاد اصابها وادخلها في غيبوبة لم تخرج منها الا لتنقذ نفسها من مراسم الدفن الذي كانت تحضّرها لها العائلة، ظنا منها انها توفيت.
اما بقاء دييغو الطفل على قيد الحياة فكان، وفق مصادر عدة، بفضل شراهته، وكأن هذه المصادر اتهمته بالبقاء على قيد الحياة على حساب حياة شقيقه التوأم الذي قضى بعد اشهر من ولادته بسبب ندرة الحليب المتبقي له!
يبقى من المجحف التغافل عن تأثر دييغو الطفل بموت اخيه، وبكونه تأذى من تخلي والدته عنه لأنشغالها بموت اخيه. ولذلك اهمية كبرى في تكوين شخصيته. ومن غير الممكن التغاضي عن اهمية هذا الفنان في تاريخ الفن بشكل عام لمجرد انه كان سجين انانيته ولامبالاته تجاه الاخرين. يكفي القول انه الفنان الذي اعاد احياء الهوية المكسيكية وتوحيدها من خلال فنه، وهي الحافلة باختلافات كثيرة، وذلك بعد انقضاء حرب اهلية دامت سنة واحدة. ومن المعروف أن الفترة الممتدة من عام 1920 الى 1924 كانت مصيرية بالنسبة الى المكسيك اذ كان للفن دور اساسي في تكريس الوحدة الوطنية وتثقيف الطبقة الشعبية.
رسم ديغو ريفيرا مجموعة من الجداريات تغنت بتلك المبادىء الناشئة وأرست قوانين الدولة الجديدة. نذكر منها تلك المسماة "دارالصناعة"، حيث مجموعة من العمال والثوار يتلقون البنادق من يد فريدا كاهلو التي كانت هي ايضا عضوا ناشطا في الحزب الشيوعي. ورسم جدارية اخرى اسمها "الخلق" وفيها صور كل الديانات القديمة التي عرفتها المكسيك وصولا الى المسيحية.
من المهم أن نذكر هنا ان ريفيرا كان ملحدا وشهر الحاده في اكثر من مناسبة، وانه لم يكن يرسم اي شعار ديني او شخصية دينية الا في اطار اجتماعي بحت.
ليس ريفيرا رساما موهوبا فحسب، بل هو أبو فن الجداريات المعاصر وفق تأثر واضح بفن النهضة الايطالية على أيدي فنانين جداريين عمالقة من مثل مساشيو وفرا انجيليكا. العالم كله مدين له، وخصوصاً الولايات المتحدة، في اطلاق الفن الشعبي وترويجه، أو ما يسمى "البوب ارت" الذي يعتبر الفنان الاميركي الشهير جاكسون بولوك احدى اهم ايقوناته.
ليس هذا فحسب بل ان اختبارات دييغو ريفيرا الكثيرة مع زملائه المكسيكيين في ميدان المواد الملونة، ادت الى صناعة الوان الأكريليك المتداولة في عصرنا الحديث. ثمة جانب أخر عرف به الفنان، هو التناقض الكبير في حياته العامة والخاصة على السواء. نذكر التناقض بين افكاره الشيوعية وتصرفاته التي اثارت الريبة وادت في النهاية الى فصله من الحزب الشيوعي العالمي. من الجداريات التي تجلى في ظروف تنفيذها هذا التناقض، نذكر تلك التي نفذها في ديترويت لحساب اكبر شركة رأسمالية حينذاك، وهي شركة فورد الأميركية. وقد دافع ريفيراعن جداريته قائلا: "اني اشجع الثورة الصناعية لأنها مع مبدأ استغلال الأرض وليس استغلال الانسان". لكن دفاعه هذا لم يمنع عنه علامات الاستفهام او الادانة. هناك عمل فني آخر لا يقل اهمية عن جدارية ديترويت طلبه منه نيلسون روكفلر الثري ليكون مشغولا على احد جدران مركزه الجديد في نيويورك. جدارية رائعة تضم شخصيات عدة منها فلاديمير لينين. لكن روكفلر ما ان رأى وجه الأخير في جداريته حتى طلب من ريفيرا ازالته، فرفض، فكان مصير الجدارية الاتلاف بكل بساطة. غير ان ريفيرا اعاد رسم هذه الجدارية في وطنه المكسيك.
اما التناقضات في حياة ريفيرا الخاصة، فحدّث ولا حرج. اذ غالبا تظاهر بما هو ليس عليه. وكان كثير الكذب يحب اختلاق القصص الغريبة عن ماضيه وغرامياته. يذكّرنا هذا بما قاله يوما اوكتافيو باث: "المكسيكي يسرد الأكاذيب لأنه يحب العيش في الفانتازيا". اذا، تناقض شامل ومتماسك أشد التماسك. يبقى التلازم بين الفنان وأنانيته تلازماً صاعقاً أخرج الى العالم أروع الأعمال وأغزرها.
استمر ريفيرا جشعا كطفل كبير أبى ان يرى العالم الا من خلال حاجاته ونزواته. بقي كجان باتيست غرونويي تحت سطوة موهبته التي كما وصفها في نهاية الرواية "قدرة اعظم من المال، من الذعر، وحتى من الموت نفسه. انها القدرة على الايحاء بالحب".
أما الزوجة فريدا كاهلو، القائلة "طموحي ان يكون لي طفل من دييغو ريفيرا" فرسمت الفنان كطفل ناضج يستكين بين ذراعي الأرض وذراعيها في تواطؤ سحري ما بين الشمس والقمر. وفي لوحة اخرى رسمته كعين ثالثة على جبينها وحوله اغصان دقيقة أشبه بخيوط عنكبوت تريد ان توقعه فيها "نهائيا". لكنها لا تلبث ان تستدرك في مذكراتها قائلة: "دييغو البداية/ دييغو طفلي/ دييغو حبيبي/ دييغو صديقي/ دييغو والدي/ دييغو انا/ دييغو الكون. لماذا اناديه دييغو خاصتي؟ لم يكن يوما ملكاً لي. لن يكون الا ملك رغباته. ملك نفسه".
إضافة تعليق جديد