د.غسان رفاعي: شيوخ متصابون وشباب مكتهلون!..

10-08-2008

د.غسان رفاعي: شيوخ متصابون وشباب مكتهلون!..

ـ 1 ـ يشكو جيلنا ـ وهو مزيج من الشيوخ المتصابين والشباب المكتهلين ـ من ثلاث عاهات مروعة: الجهل أولاً، لا على أنه افتقار إلى المعرفة، وإنما على أنه تغيب عن الساحة، والخوف ثانياً، لا بسبب الجبن، وإنما بسبب الإقصاء المتعمد عن المشاركة في الشأن العام، والحماقة ثالثاً، لا على أنها نقيض الحكمة، إنما على أنها السلامة الجسدية والعقلية المتوافرة، في مناخات التسلط الراهنة.

ما أكثر مثقفينا الذين «يجلدون ذواتهم» بلا رحمة، ويبرعون في تمزيق جلودهم، حتى بات «الندب» من أكثر الأجناس الأدبية ذيوعاً وانتشاراً، بل إننا نتهم كل من يتخلف عن المشاركة في مهرجانات اللطم بالنفاق، والانتهازية، ودفن الرأس في الرمال، أليس من المؤلم أن يصرخ أحد كبار مثقفينا: «لنمتلك الجرأة، ولننظر إلى وجوهنا الملأى بالبثور في المرآة، ولنتوقف عن تصنيع الأعداء في كل مكان، ولنعلن، بكل جرأة: كم نحن قبيحون؟!» ‏

ولكن قد يتطلب منا المنطق السليم أن نستخدم المجهر للكشف عن الدمامة التي تحيط بنا، والمبرقعة بالأصباغ المزركشة. ‏

‏ ـ 2 ـ ‏

مازال متوهجاً في ذاكرتي المقال التحليلي الذي كتبه دانيال بابيز المستشار السري للرئيس بوش في «النيويورك صن» عن فوائد الحرب الأهلية في العراق، فلم أصدق أن الشر يمكن أن يتغلغل داخل تلافيف الدماغ إلى هذه الدرجة، وعجبت كيف يختزن هذا المستشار كل هذا الحقد، وهو الذي صك فكرة «محور الشر» التي استخدمها رئيسه، لتعبئة الرأي العام ضد دول لا تزال ترفض الاستكانة والخضوع لإملاءاته؟ ‏

يعترف دانيال بابيز، في مستهل مقاله بأن الأوضاع في العراق «سيئة للغاية»، لكنه يسارع إلى القول إن الولايات المتحدة ليست مسؤولة عن هذا «السوء» ولا يخجل من الإقرار بأن هذا السوء هو في مصلحة الولايات المتحدة، ويورد مجموعة من الأسباب «المقنعة» لدعم وجهة نظره «المبتكرة»: ‏

أولها، أن المسلمين، والعرب خاصة، ليسوا «ناضجين» بما فيه الكفاية، لتقبل الديمقراطية، ومن الخطأ الإصرار على فرض هذه الديمقراطية عليهم، لأنها لن تؤدي إلا إلى المزيد من «الأذى»، وستكون وبالاً على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، إن الحرب الأهلية جزء لا يتجزأ من التكوين الاجتماعي والسياسي للتاريخ الإسلامي، ومن العبث محاولة «انتشال» المجتمع الإسلامي العربي من الاقتتال الطائفي والاثني، وعلى هذا الأساس يجب على الولايات المتحدة أن «تستفيد» من هذه الخصوصية، وأن تستثمرها بذكاء وبراعة. ‏

ثانيها، أن الحرب الأهلية «المتأججة» حالياً في العراق إيجابية على المستوى الجيواستراتيجي، لأنها لا يمكن أن تنحصر في العراق، ولا بد من أن تصيب سورية وإيران بالعدوى، وترغمهما على التدخل، وهذا ما يسهل مهمة الولايات المتحدة التي «تتمنى» أن تتخلص من نظاميهما «الشريرين» ثم إن هذه الحرب إيجابية على المستوى السياسي، لأنها تثبت أن وهم إشاعة الديمقراطية التي يتمسك بها بعض السذج في الإدارة الأميركية، مؤذ جداً، على اعتبار أنها لن تكون نزيهة وديمقراطية إلا بانتصار الإسلاميين، وحصولهم على الشرعية الدستورية، عن طريق الاقتراع، كما حدث في الأراضي المحتلة. ‏

وثالثها، أن أهم خصوصية لاستمرارية الحرب الأهلية هي إشغال العراقيين بقتل بعضهم للبعض الآخر، وتخفيف الضغط عن القوات الأميركية المحتلة، وتبرير بقائها في العراق، إذ سيحاول كل فريق في الحرب الأهلية «الاستنجاد» بهذه القوات، والتحالف معها، للانتصار على الفريق الآخر. ‏

ورابعها، سيكون العالم أكثر أمناً واطمئناناً، بعد استجرار المسلمين إلى الاقتتال فيما بينهم، ما سيؤدي، في نهاية المطاف، إلى زوال التهديد الإرهابي للولايات المتحدة، وللغرب عامة، وتفتت «الوحدة الإسلامية»، وتحقيق الهيمنة الأميركية على بعض الدول التي لا تزال تحتكر الطاقة النفطية، ولا تزال تحلم بمحاصرة إسرائيل بل زوالها، كما يكرر الزعيم الإيراني الشاب، من دون توقف، والنتيجة التي توصل إليها هذا المستشار المحافظ الشرير هي التالية: قد تكون الحرب الأهلية العراقية كارثة إنسانية، ولكنها «بركة استراتيجية» ولا يجوز السعي إلى إنهائها، أو إلى إطفاء نيرانها، أو إلى إقناع الأطراف المتنازعة بإيجاد تسوية لها. ‏

ـ 3 ـ ‏

وما زال متوهجاً في ذاكرتي أيضاً وجه بيكي مايكوفيتش، لا لأنها خارقة في جمالها، ولا لأنها نجحت في استنساخ طفل في تحد للشرعية الإلهية، وإنما لأنها شخصت «النذالة»، دون شعور بالإثم والإحراج، إنها مذيعة في التلفزيون الإسرائيلي وأم لطفلين وعشيقة لرجلين، ومعجبة بمجرمي الحرب بوش وشارون، وكانت تقدم نشرة الأخبار، حينما بدأت الصواريخ تنهال على عاصمة الرشيد، فأصيبت بنوبة من الضحك الهستيري، وأخذت تصفق بيديها، وهي تعلق في بث مباشر: «أخيراً، بدأت قوات التحالف بقصف بغداد بصواريخ الكروز والتوماهوك، لكم انتظرنا هذا اليوم، يا الله كم نحن سعداء؟!». ‏

وقامت السيدة بيكي مايكوفيتش بإنجاز حضاري آخر، بعد ليلتين من القصف المتواصل لمعالم بغداد الحضارية، إذ قدمت للمشاهدين مصمم مدن إسرائيلياً، يفاخر بأنه تبرع بتقديم خرائط مفصلة عن الأماكن الأثرية الحضارية في العراق إلى طياري التحالف دون مقابل، وتوجهت السيدة مايكوفيتش إلى المشاهدين قائلة: «يبنغي أن يبادر طيارو التحالف إلى قصف هذه الأماكن الأثرية من البر والبحر والجو، لأنها أخطر من أسلحة الدمار الشامل، لا يمكن التخلص من الإرهاب الشرقي إلا بتدمير كامل للتاريخ، احرموا سكان هذا الجزء من العالم من تاريخهم الحضاري المتراكم، وحرروهم من تراثهم، واتركوهم بلا ثياب داخلية في مطلع هذا القرن!». ‏

ـ 4 ـ ‏

يعترف جيلنا بأنه يجهل ما يجري في عالمه العربي، وعلى امتداد الكرة الأرضية، كانت لديه بوصلة تهديه، وتكشف له بعض الأسرار في عالم الظلمات الذي يحيط به، ثم فقد هذه البوصلة، أو لعلها قد كسرت، ولم يستطع الحصول على بديل منها، كان سقراط وهو ابن مولده ـ وقد اكتسب شيئاً من مهارتها المهنية ـ يعتمد على المساءلة الخبيثة للتوصل إلى الحقيقة، ولكنه لم يكن يسعى إلا إلى إثبات جهل الآخرين، تمهيداً لإعلامهم بأنه أكثر جهلاً منهم، لقد دخل سقراط إلى داخل كل واحد منا، ولم نعد بحاجة إليه، للتوصل إلى حالة الشك المطلق، وفقدان الثقة الكامل، حتى ليخيل إلينا أننا في حالة انعدام الوزن. ‏

ـ 5 ـ ‏

ويعترف جيلنا، دون اكتراث، بأنه خائف، لا لأنه جبان، وإنما لأن يأساً غامضاً يتسرب إليه، فيفقده القدرة على رؤية الأشياء، بوضوح وشفافية، وكما يقول «شوبنهور»: «خوف اليائس موقف سياسي» لقد امتزجت لديه الهموم الشخصية بالهموم الوطنية واختلط الإقليمي بالدولي، وما عاد من الممكن استشراف المستقبل الذي ينتظرنا، ولا تحديد هويته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في البدء، كان عندنا تفاؤل جغرافي يقوم على الاعتقاد أن الوحدة العربية على مشارف الغد، وأن الشقف الأرضية المتناثرة، والمشطورة في الوطن العربي، بفعل قرارات أجنبية مفروضة سوف تلتحم لتكون كلا متجانساً، وها قد تكاثرت الدكاكين، ويتحكم في كل دكانة حانوتي بارع لا يفكر إلا بالمحافظة على ملكه، والقضاء على الدكاكين المنافسة، وها قد تفسخت الهوية الموحدة، بل لعل تسمية الوطن الجديدة: «الشرق الأوسط» تكشف الكثير من الهجانة الموعودة، وكان عندنا تفاؤل تاريخي، قوامه أن المستقبل قد يكون امتداداً للماضي، وأن ما توافر لنا من مؤهلات وشروط وثروات وطاقات كفيل بأن يؤمن لنا، ولأجيالنا الجديدة حياة حرة كريمة، وقد تلاشى هذا التفاؤل، بعد أن تحقق هدر كل شيء بجنون وسادية: هدر الثروة العربية، والقوة العربية، والكرامة العربية، في معارك حاقدة، وتواطؤات مشينة، ومنازعات مستلبة، واليوم ونحن محاصرون بالسلام المزيف والازدهار الكاذب، ومشاريع الهيمنة الأميركية ـ الإسرائيلية، واحتمال تفجر الحروب الأهلية كل يوم، لا نملك إلا أن نخاف، لا لأننا فقدنا شجاعتنا، وإنما لأننا نشعر بأننا متروكون مهجرون، وقد لا نملك القدرة على المقاومة. ‏

ـ 6 ـ ‏

ويعترف جيلنا، دون خجل، بأنه أحمق، لا لأنه لا يعرف ما الحكمة، وإنما لأنه عاجز عن التأقلم مع ضغوط الحاضر، ولقد حول الإنسان العربي الذي مسخ إلى صرصار عند «كافكا» وإلى مخلوق غارق في صندوق قمامة حتى أذنيه كما عند «بيكيت»، وكأن هناك إصراراً على نقل إشكالات الحياة إلى مدرج ميتافيزيقي ليس فيه نظارة، بغية تعرية الحياة العربية الفكرية من معقوليتها، وإبقائها مفككة، ينظمها تتابع مفارق غامض، والحقيقة أن ما تسعى إليه الواجهات الفكرية المضاءة بالنيون هو عرض إنسان أفقد حتى البطولة الإغريقية التراجيدية في مواجهة الأقدار، وحرم من الهزيمة المشرفة كتلك التي حاقت بـ«هاملت» و«دون كيخوتة»، وحصر بين حجري الرحى، دون أمل في الفرار من المصير المحتوم. ‏

وضمن حدود النوسان بين الاستنقاع والعربدة، يشيّد الإنسان العربي سجناً اسمنتياً يحبس عنه جميع منافذ النور، ثم يدفع إلى أن يتكور في أمن برجوازي، وفي طقوس خانقة، تقيه المد والجزر، فيقرر أن «يضحك بلا فرح، ويبكي بلا حزن، ويتألم بلا وجع، وإذا تكلم، لم يقل شيئاً». ‏ ـ 7 ـ ‏

ليس المطلوب إعادة النظر في المواقف، فهذه محسومة، ولا مجال للمساومة عليها، ولا رسم خارطة جديدة تحدد مواقع الأصدقاء والأعداء فهذه مفروغ منها، ولا يفيد في شيء إخضاعها لعملية فرز جديدة، وإنما المطلوب هو تجمع القوى، وجرد المخزون، بهدف متابعة النضال، والاستمرار في المقاومة. ‏

د. غسان رفاعي

المصدر: تشرين


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...